أرشيف التصنيف: Covid diaries

هَرَب // وَهَن

كتبت: نور كامل 

ترجمة: سماح جعفر

أفكر في الرحلة بالسيارة عبر أركنساس في صمتٍ حَنُون مع من أحب، لرؤية متحف فني ممول بواسطة جماعة وول مارت ومليء بالفن الأمريكي في منتصف اللامكان، كم كانت كل الأشكال جميلة، كل الوميض

لا أفكر في معضلة التعرض للمرض خلال محاولاتي إيجاد ممرضة أو دار رعاية لبابي بعد أن أوقفت السكتة الدماغية دورة حياته القصيرة بالأساس، والتي صارت أقصر بسبب الجائحة، لأعتني به بنفسي خلال الجزء الأكبر من هذه السنة

 

أفكر في الأوتيل الأحمر في تشيانغ مي والمقهى في دوره السفلي، حيث رأيت عابرة تايلندية جميلة تجلس باشّة مع من تواعد، عادية جدًا – شيء لم أره من قبل ولم أفكر قط بأنني سأكون محظوظة كفاية لأراه – أحسست على الفور أن، “بإمكاني العيش هنا”، ولا زلت أفكر في العيش هناك فقط، في تلك اللحظة

لا أفكر في كل الأداء الجندري الذي قمت به جسديًا وعقليًا، لأجلي وللآخرين، لأبقى “آمنة” مهما عنت هذه الكلمة الآن في مكان أدعوه بشكل يائس “الوطن” – حيث علم قوس قزح رمز للنفي، بدلًا عن الآمل، لكن بإمكانكِ ارتدائه مطبوعًا على كمامة في حالة أن ما تبقى منكِ يبدو “سَوِيًّا”

 

أفكر في تلك الرحلات الطويلة إلى الساحل كل صيف، وماما خلف المقود، بينما أحدق في الجزء الخلفي من عنقها بحب وانبهار في كمالها، تلك الوحدانية المستقلة لعمل كل شيء لأطفالها بنفسها

لا أفكر في عدد جلسات الكيماوي التي تحتاجها، وكيف بإمكاني بعدها أن أرى أي شخص ليس من العائلة المباشرة دون أن أحس بالذنب، دون أن أحس أن المغادرة والعودة إلى الوطن مرتبطة بوفاة شخصٍ آخر

 

أفكر في الوقت الذي ذهبت فيه إلى سان فرانسيسكو دون أن أخبر رفيقة روحي أولًا، وفاجأتها أمام بابها بينما تفكُ ضفائرها وكل ما تمكنت من فعله هو أن تصرخ فيَّ بسعادة

لا أفكر في أنيَّ لم أرها منذ خمس سنوات، كيف مزقتنا وربطتنا سنوات التباعد تلك عدة مرات في المحبة وفي تمددات الصمت، أننا كان يجب أن نقضي العيد ميلاد معًا، أخيرًا، وكيف أردت أن أريها وطني وأملت بطريقة ما أن هذا قد يساعدها على أن تتفهم

 

أفكر في الليالي التي قضيتها في سرير ما وعن محاولات إقناعي في الصباح أن أبقى، محاولات إقناعي بالمحبة رغم أننا نعرف أنني لن أفعل، ليس بشكل كامل، ليس بالطريقة التي يمكن لأي منا الاعتراف بها

لا أفكر في الشعور بالارتياح الذي يأتي بعد انفطار القلب، الذي يأتي بعد أن تدركي أنك كنت تعيشين في متاهة صنعها شخص آخر، لم يكن بها مساحة لك قط

 

أفكر في المنزل المتكلف في الجونة مع حوض السباحة والجاكوزي الذي استأجرته أختي لإبنها لكي لا يحس أن الجائحة أعاقت طفولته بأي شكل، متظاهرة أنه ليس هناك كوفيد في الجونة

لا أفكر كيف كان الجميع هناك يتجولون دون كمامة وكأن ليس هناك كوفيد في الجونة، غير متأثرين بأي شيء، بهذه السنة بأكملها – بمن فيهم أنا، التي نسيت للحظة شعور أن تحبسي أنفاسك خلف كمامة

 

أفكر في آخِر مرة كان بابي فيها صاحٍ فعلًا، حين قاد لتسع ساعات عبر الولايات مع أختي لكي يراني فقط خلال عطلة أسبوعية في ممفيس، وكيف حين سألت مازحة عن كيك الشوكولاته المفضل عندي من دالاس – كانت ينتظرني هناك في المقعد الخلفي للسيارة، شيء بابي فقط سيصر على فعله: القيادة بقطعة كيك لأجل أبنته فقط لأنها أرادتها

لا أفكر في أي شيء، ملتفة ببطانيته الأخيرة، خاصة بعد أن تباعدنا اجتماعيًا لتسعة أشهر ومات على كل حال

 

أفكر في ليالٍ بأماكن غريبة والشرب مع غرباء ساعدوني في الوصول إلى المنزل، آمنة في الظلام، لأن هذا ما عليك فعله

لا أفكر في كل الرجال الذين حطموا أجسادًا، حطموا قلوبًا، حطموا أي إرادة في السماح للرجال بالدخول

 

أفكر في كل الحرية والطمأنينة التي كانت لدي لأتمكن من قضاء ساعة وأنا أمشي بين الجامعة والمدينة، خلال شوارع هادئة وحدائق، أضرحة وأشجار، أجرب صفيري حتى أتمكن من تصفير أي أغنية تمر على بالي

لا أفكر في عدم استطاعتي الصفير وأنا أرتدي الكمامة، بأنفاس متقطعة، مَأخُوذة، مكتومة، غير متناغمة – لا أحمل أي أغانٍ هذا العام، والموتى لا يبادلونك الصفير على أي حال.

جوابات مفتوحة

Share Button

أن تكوني أما مغتربة في زمن الكورونا

 


كتبت: سارة ناجي

يوم في حياة أم مغتربة في زمن الكورونا 

أغلقت المدينة أبوابها، سُكرت المطاعم والمقاهي، أُقيمت مستشفيات العزل وقُننت الكمامات، دُشنت خطوط الهواتف العاجلة لتقديم المساعدة، تباعدنا اجتماعيا وأصبح نظام التعليم عبر الإنترنت. وفي غضون شهور، وجدت نفسي وحيدة في بلد غريب مع أطفالي، لا يمكنني الخروج لأن الوباء يتربص بنا في الخارج. أغلقت بابي في وجه كورونا، لكن كان هناك من يلاحقني داخليا؛ ففي أعماقي كان القلق والحزن ينهشاني نهشا بعد أن تضاعفت مخاوفي أثناء الوباء. ممن أخاف؟ أخاف من أشباح ذكريات الماضي. لماذا؟ تلك قصة طويلة للغاية، تعود جذورها إلى طفولتي المبكرة. لكن سأحكيها لكم:

حين كنت صغيرة، عشت رفقة عائلتي في المملكة العربية السعودية. ولما آن أوان العودة إلى أرض الوطن لم نعد خالين الوفاض، بل كان رأسا أبي وأمي محملان بالفكر السلفي الوهابي. ولأننا من صعيد مصر، فقد امتزج هذا الفكر الوهابي مع العقلية الصعيدية، ليكونا معا خليطا رهيبا من الممنوعات. لا مسلسلات ولا أغاني ولا أفلام ولا لعب في الشارع ولا اختلاط بالآخرين. لم يكن يوجد سوى أفلام الكرتون، بمواعيد صارمة تحددها أمي. لا صوت يعلو في المنزل فوق صوت صراخ أبي وأمي والشيخ الذي يتحدث عن عذاب القبر.

لم أفكر يوما في التمرد على سلطة والديّ، خاصة بعد ما حدث لإخوتي. فمثلا في أحد الأيام، جاءت أختى الكبرى بديوان شعر لنزار قباني، فلما رأته أمي أحرقته بالنار ثم لسعت يد أختي قائلة لها أن تلك اللسعة لا تساوي شيئا أمام نار جهنم. وقتها قررت ألا أُغضب أمي أبدا، ولهذا التزمت بأداء الصلوات وحفظ القرآن، وعكفت على مذاكرة دروسي خوفا من غضبها. لكن كل هذا لم يشفع لي عندها حين جاء اليوم المشئوم.

وفي أحد الأيام تعرضت للتحرش. ولأني غبية للغاية، قررت أن أخبر أمي التي جاء رد فعلها مفاجئا لي، إذ أبرحتني يومها ضربا، وقررت أني يجب أن أرتدي الحجاب في اليوم التالي. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ كانت تشتري لي دوما ملابس واسعة للغاية. وفي كل مرة أنزل إلى الشارع تسألني حين عودتي عما فعلت؟ ومع من كنت؟ حتى أدركتُ بمرور الأيام أنها تشك في سلوكي! كيف تأكدتُ من ذلك؟ حين كنت في الصف الثاني الإعدادي، تزوجت أختي الكبرى وأقيم زفافها في إحدى فنادق المدينة. وأثناء حفل الزفاف ذهبت إلى الحمام، وفي طريق العودة أوقفني أحد العاملين في الفندق ليسألني عن أمر ما. جاءت أمي في تلك اللحظة وهي غاضبة بشدة ومصممة أنني قد قضيت الوقت بصحبة هذا العامل في إحدى غرف الفندق!

بعد ذلك أصبحت أخاف بشدة؛ من كل شيء ومن أي شيء، حتى أصبحت أمشي في الشارع وأتلفت حولي. وحين جاءت المرحلة الثانوية، حصلت على مجموع مرتفع وقررت دخول إحدى كليات القمة، لا طموحا مني ولا حبا في الكلية، لكن حتى أهرب من البيت. لم توافق أمي على سفري من الصعيد إلى القاهرة الكبيرة، لكن أبي وافق على مضض في نهاية الأمر وهربت من البيت بهذه الطريقة.

انتهت سنوات الكلية بسرعة، وخفت من العودة مرة ثانية إلى البيت. ولهذا قررت أن أستكمل دراسة الماجستير رغم عدم حبي لمجال دراستي. وهكذا مكثت سنتين إضافيتين في القاهرة، وحين جاء أوان العودة، قررت أن أتزوج أول شاب تعرفت عليه في القاهرة حتى لا أعود إلى البيت. تزوجت بسرعة شديدة دون أن أتعرف عن قرب على زوجي ودون أن أكلفه شيئا. وبعد الزواج، اتضح أنني كنت مخطئة، لكن فات أوان الندم خاصة مع وجود أطفالي. والآن حان موعد إغلاق سيل الذكريات لإيقاظ الأطفال.

 

في الصباح.. كاتبة ومحررة ومعلمة 

أستيقظ كل صباح في تمام الساعة السابعة. أحضر الإفطار ثم أوقظ ابني الأكبر ليحضر دروسه أونلاين. أجلس برفقته قليلا لأن الدورس ليست باللغة العربية، وعليّ أن أمده ببعض المساعدة. بعد الانتهاء من الدروس، أنظف المنزل وأفتح حاسوبي من أجل العمل. أطلع على آخر الأخبار وأحضر مادتي التي سأعمل عليها. وفي أثناء ذلك يقاطعني أطفالي مئة مرة، فقد تعودوا أن يلعبوا ويتشاجروا حولي بصوت مرتفع. كثيرا ما أفقد السيطرة عليهم تماما، وأفقد السيطرة على نفسي لأنهمر في البكاء، لكن ليس لوقت طويل إذ ينادي عليّ صغيري تميم لأصب له بعض اللبن، ويرسل لي مديري بريد إلكتروني بضرورة الانتهاء من التقرير الذي سيُنشر اليوم. أنتهي من المادة وأرسلها لأساعد ابني في واجباته المدرسة.

في الظهيرة.. وقت الطعام واللعب

فور أن أغلق اللابتوب، أذهب إلى المطبخ لإعداد طعام الغذاء. لا يحب أبنائي أصناف الأكل نفسها، لذا أطهو أصنافا مختلفة. وبعدها نلعب سويا. يفتقد أبنائي مصر بشدة، ويشعرون أنهم عالقون في هذا البلد الذي فرض عليهم عدم الخروج إلا في ساعات قليلة. كل يوم يخبرني تميم الصغير أن “مصر مفيهاش كورونا، يلا بينا نرجع، عايز أشوف جدو وتيتا”. أحاول قدر الإمكان أن أنتزع من داخلهم إحساس الوحدة الموحشة لكن دون جدوى، فالوحدة أضحت مثل شبح يخيم علينا من علٍ دون أن ننجح في السيطرة عليه.

لا أحب أن يقبع أطفالي لوقت طويل أمام الشاشات، ولهذا حاولت أن أعرفهم على عالم طفولتي البعيد، حين كنت أشاهد “عهد الأصدقاء” وكرتون “أنا وأخي” على قناة سبيستون. يأتيني من يوتيوب صوت رشا زرق الملائكي ليعيدني إلى سنوات طويلة مضت. تتسلل الذكريات بين جوارحي لتملأ قلبي حنينا وألما. أنظر إلى نفسي الحالية لأجد أنني تغيرت كثيرا، وأكتشف أنني خُدعت من تلك الحكايات، وأعددت نفسي لعالم لم أكن أعرف عنه شيئا. فالخير لا ينتصر دوما على الشهر، والحياة قد لا تهدينا أبدا ضوءا في آخر النفق. وحين أفقت من غفلتي، لم يكن أطفالي يشاهدون معي ذكرياتي، فقد انسحبوا للعب بمكعباتهم الجديدة. حسنا، ربما ذلك أفضل. حين يكبرون، سأعلمهم أننا لا نملك عصا سحرية لتغيير الواقع، لكن علينا دوما الإصرار والسعي للحصول على ما نريد من الحياة.

في المساء.. أنا بصحبة القلق 

يخلد أطفالي للنوم أخيرا بعد أن ينتزعوا مني وعدا بأن نفكر في العودة للوطن في أقرب وقت ممكن. وبجانب السرير الصغير، يضع طفلي حقيبة سفره، ويضيف إليها لعبة كل يوم ويقول “ماما، أنا هاخد معايا العربية الحمرا وأسيب الخضرا”، ليقرر في اليوم الثاني أن يأخذ السيارتين.

في الليل، أشعر كأنني سأسقط مغشيا عليّ. أعيد أحداث اليوم مرارا وتكرارا، وينتابني خليط كبير من المشاعر يطغى عليهم جميعاً الإحساس بالذنب تجاه أطفالي الصغار الذين وجدوا أنفسهم فجأة بمفردهم، ويجب أن يكونوا على مسافة من كل الناس في الشارع. يأتي بعد ذلك الإحساس بالخوف؛ الخوف على حياتي وحياة أطفالي، الخوف من أن أفقد وظيفتي غير المستقرة بالأساس، والخوف من ألا أتمكن من دفع إيجار البيت وفواتيره الباهظة. إنها سلسلة لا تنتهي من الاضطرابات التي تشكل معا عالمي الحالي.

أستعيد فجأة سيل الذكريات الذي ينهمر دون توقف، إذ قرر زوجي في أحد الأيام أن نترك شقتنا المستقلة لنعيش في بيت عائلته. وكانت هذه بداية جحيم آخر، إذ كانت والدة زوجي وإخوته يتفننون في مضايقتي بكل الطرق؛ لماذا ترتدين البناطيل؟ أنت متزوجة، هل تحبين أن ينظر إليك الرجال؟ هنا أدركت أن شبح أمي أصبح لعنة تطادرني من جديد. لماذا يظن الجميع أني أركض وراء الرجال؟ وماعلاقة ملابسي بهذا الأمر؟ من وجهة نظر والدة زوجي، فالمرأة المتزوجة لا يجب أن تهتم بمظهرها أثناء الخروج للشارع. اشتدت المشكلات بيني وبين زوجي، ولأنني شخصية تهوى الهروب ولا تتقن سواه، قررنا أن نبدأ حياة جديدة في مكان آخر. لكن لم تسر الأمور بشكل جيد، لنقرر أن نأخذ استراحة أتحمل خلالها كل العبء وحدي. كيف يمكن أن نسمي هذه الفترة استراحة؟!

أن يحبكِ أحدهم لأنك تقومين بعملك على أكمل وجه، ثم يغضب فجأة لأنك تركتِ الأطباق غير النظيفة في الحوض لهو أكبر لعنة على الإطلاق. يرسل لكِ هذا الشخص إشارات متضاربة، فهو يحبك ولا يحبك، يحترمك ويحتقر كتاباتك، يمنعك من ارتداء الملابس التي يراها غير مناسبة ثم يتغزل في البنات الأجنبيات.

ينضب شغفي تجاه كل الأمور التي أحببتها يوما أسرع مما أتخيل. لا أدري تحديدا كم عدد الأيام والليالي التي قضيتها دون ونيس، حتى اكتست أيامي بحلة الوحدة. أفكر جيدا في العودة للوطن، لكن لا ينتظرني أحد هناك. أنهمر بشدة في البكاء، ثم أكفكف دموعي لأذكّر نفسي أنني لا أملك تلك الرفاهية. أطمئن على أولادي وأغطيهم جيدا ثم أعود للنوم، فأمامي غدا يوم طويل جدا.

 

Share Button

أحارب لأجل مساحتي الخضراء

 

 

كتبت: هدير الحضري 

في يوم دافئ من فبراير 2020، غادرت قطار النوم الذي حملني إلى القاهرة وأنا منتشية بالذكريات السعيدة. كنتُ قد أنهيتُ للتو رحلة قضيتها مع عائلتي لمدة أسبوع على متن سفينة نهرية من أسوان إلى الأقصر، لاحقا عرفتُ – ويا للمصادفة – أنها كانت البؤرة الأولى لإصابات كورونا في مصر.

في محطة القطار، وقعت عيني على مُلصق ورقي على الجدار مكتوب عليه بخط عريض “إرشادات للوقاية من فيروس كورونا المستجد”. شعرت بهلع غريب، أليست مصر حتى الآن خالية من الإصابات؟ أليس الخطر بعيدا جدا كما يبدو؟ ومع أن المنطق والواقع يقولان إن تفكيري في غاية السذاجة، لكنني في هذه اللحظة تحديدا قررت أن أحتمي في ظل شعوري الوهمي بالأمان. 

مضت عدة أيام بعد هذا التاريخ ليصدر بيان رسمي من وزارة الصحة المصرية كالقنبلة، ويعلن اكتشاف 12 حالة على متن السفينة التي كنا نستقلها. كانت الحالات المصابة موجودة في نفس توقيت إقامتنا، وأذكر كم كان لكلمة “كورونا” حينها وقع ثقيل ومخيف، أكثر بمراحل مما هي عليه الآن. قضينا عدة أيام في ترقب وقلق من ظهور أعراض العدوى، ثم مر الأمر بخير. لكن حياتي لم تعد كالسابق أبدا.

وبالتدريج، بدأت الجائحة تلقي بظلها على حياتي الشخصية لتزيدها صعوبة ومشقة. توقف ابني ذو العام الواحد عن الذهاب إلى حضانة الأطفال، وتأثرت قدرتي على العمل بشدة، فلم أستطع إنجاز عدة مشاريع صحفية كنت بصدد إنهائها. تراجعت حياتي المهنية وتحوّل قلقي إلى كوابيس جعلت نومي متقطعا ومحشوا بالخوف. زادت المهام المنزلية ثقلا، واستجد عليها تعقيم كل ما نشتريه بحرص شديد. اعتزلنا الأهل والأصدقاء، واحتمينا بجدران المنزل، وتضررت صحتنا النفسية بشكل كبير. لاحقا، حين قررت أخيرا بعد عدة أشهر أن ألتقي بأحد الأصدقاء وأغادر المنزل، شعرت بالاضطراب وبأنني غير قادرة على البقاء بالخارج أو الاستمرار في محادثة طويلة مع أي كائن بشري، وعدتُ على الفور. كذلك طفلي الذي أدار له العالم ظهره قبل حتى أن يعرفه، أصبح متوترا وخائفا من الجميع ومنغلقا على نفسه.

في هذا التوقيت، تطلّب منّي العمل إعداد تقارير صحفية عن تأثير جائحة كورونا على أوضاع النساء العربيات على مستويات مختلفة. وحين أنهيتها، شعرت بمزيد من الإحباط والتعاسة، وبدأ وحش القلق يتضخم في عيني من جديد ويتحفز ليلتهمني. كنتُ أرى أننا كنساء باختلاف ظروفنا الاجتماعية ندفع ثمنا باهظا لهذه الجائحة جسديا ونفسيا بعد أن تضاعفت مهام المنزل  ومسؤوليات الأطفال، وأصبحت الدراسة إلكترونية، إلى جانب التأثر المهني والاقتصادي. في إحدى القصص، أجريتُ مقابلات مع نساء عربيات من بلدان مختلفة عن تأثر أعمالهن، منهن من فقدت وظيفتها المرموقة في مجال السياحة الذي كان أكثر القطاعات تضررا، وأصبحت تقلل النفقات بشدة لتكفي الطعام اليومي فقط حتى لا تضطر إلى “مد يدها لأحد”. كثيرات فقدن وظائفهن مع إغلاق المطاعم وصالونات التجميل والأماكن الترفيهية، وتعرضت أخريات لتقليل رواتبهن مع الأزمات التي لاحقت النظام الاقتصادي وعدم قدرة أصحاب الأعمال على الوفاء بأجور العاملين. أما العاملات بـ”الأجر اليومي” فلم يكن لديهن أي اختيار، اضطررن إلى الخروج يوميا ومواجهة مخاطر العدوى لأن بقائهن في المنزل يعني غياب المبلغ البسيط الذي يساعدهن على العيش. و في السياق نفسه، دفع الوباء بعض النساء إلى اختيار ترك وظائفهن رغما عنهن، إما خوفا من الإصابة بفيروس كورونا (خاصة العاملات في المجال الطبي) أو لرعاية أطفالهن في هذه الظروف الخاصة والعصيبة.

بعد عدة أشهر من الوباء بدأت تظهر إحصائيات مقلقة تشير إلى الآثار السيئة المنعكسة على النساء. ففي 18 مايو/أيار الماضي، قال مركز قضايا المرأة المصرية، بناء على دراسة بحثية أجراها، إن 84% من النساء فقدن أعمالهن أو انخفضت أجورهن بسبب وباء كورونا. وكانت العاملات بأجر يومي هن الأكثر تضررا، وعانين من أجل البقاء على قيد الحياة. كما أشارت الدراسة إلى تدهور أوضاع النساء الفقيرات، ووجدت أن الاحتياجات الأساسية كانت أهم ما يؤرق المشمولات بالدراسة في فترة الوباء، مثل الطعام والعلاج والإيجار والفوط الصحية وألبان الأطفال والحفاضات، إضافة إلى معاناتهن من ضغوط نفسية وأعراض جسمانية سببها نفسي.

أما منظمة العمل العربية، فقالت في بيان لها في 29 مارس/آذار الماضي، إن الجائحة ستؤدي إلى إدخال المزيد من الفقيرات إلى سوق العمل غير المنتظم نتيجة الصرف من الخدمة الذي يلجأ إليه أرباب العمل بسبب الركود. كما ستتأثر رائدات الأعمال الصغيرة بشدة لأنهن يكافحن في بيئة تنافسية صعبة ودون وسائل دعم وتمويل كافية. كما أن النساء العاملات في السوق غير المنتظم، مثل البائعات في الشوارع وغيرهن، تعرضن لفقدان عملهن في ظل الإجراءات الاحترازية ضد الوباء، بالإضافة إلى احتمالية إصابتهن بالعدوى بسبب غياب وسائل الحماية.

كان هذا على المستوى الاقتصادي، أما على المستوى الاجتماعي فكان التأثير مرعبا أيضا. وظهرت تقارير عالمية تشير إلى ارتفاع نسبة العنف المنزلي ضد النساء مع قرارات الإغلاق والتدابير الاحترازية التي تطالب الناس بالبقاء في منازلهم. كما حذرت منظمة الصحة العالمية من أن خطر تعرض للنساء للعنف سيتفاقم بسبب الإجهاد والتوتر، وتفكُّك الشبكات الاجتماعية وشبكات الحماية، وفقدان مصدر الدخل، وانخفاض إمكانية الحصول على الخدمات. وبرغم أن التقارير أشارت إلى زيادة نسبة المتعرضات للعنف إلا أنها رصدت أيضا انخفاض نسبة من يلتمس المساعدة منهن إما لحظر الخروج أو الخوف من العدوى.

 الوضع العام بمرور الوقت جعل الخوف جزءا أصيلا مني، عضوا من جسدي ومساهما في تكويني ورفيقا أبديا لا يمكن التخلص منه. قضيت شهورا طويلة وأنا أخشى ملامسة الأشياء والاقتراب من البشر، وتفيض عيناي بالخوف إذا لامس طفلي الصغير أي شيء، وأهرول إليه بالكحول. كل الأحلام والأمنيات المبهجة تبدلت إلى أفكار مزعجة وكئيبة. وتحولت ترتيبات إلى السفر إلى خطط للبقاء آمنين لأطول وقت ممكن. حتى الأمنيات التي اختزنتها لطفلي حين أكمل عامه الأول قبل بداية الجائحة  تحولت إلى قلق مفرط بسبب تأثر صحته النفسية وتأخر نطقه للكلام وشعوره بالرعب تجاه العالم. كل مساحاتي الخضراء تتبدد، ويأتي محلها أراضٍ بور بألوان كئيبة. أبحث عن نقطة ضوء أحيانا لأستمد بعض الطاقة وأواصل السير… أسقط ثم أنهض لأجل من أحبهم. 

كل هذا القدر من الخوف والحذر لم يحمني من الإصابة بفيروس كورونا بالطبع، ولا حتى جعلني متماسكة أكثر حين اكتشفت إصابتي. وحين فقدت حاسة الشم، شعرت بارتباك شديد وخوف. نظرت إلى طفلي ذو العامين ولم أدرِ ماذا أفعل. كيف سيفهم أنه لن يستطيع ملامستي أو النوم بجانبي؟ لن أطعمه أو أغير ملابسه أو ألعب معه لأسبوعين على الأقل! 

حصل زوجي على إجازة من العمل ليرافقه، في حين بقيتُ أنا معزولة ووحيدة في إحدى غرف المنزل، وعلى يميني منضدة مكتظة بأقنعة الوجه والأدوية والكحول. اختبرت أياما لم أتوقعها، وكنت أميل إلى التصديق بأنه مجرد حلم عابر وسأستيقظ في الغد ليكون كل شيء قد انتهى. لكن الأمر الإيجابي أننا كأسرة اكتشفنا أن هناك الكثير من المهام التي كنتُ أقوم بها لطفلي كامرأة وأم استطاع أن يقوم بها آخرون أيضا. كنتُ أظن أن طفلي لن يستجيب سوى لي. لكن التجربة أثبتت العكس، فقد استجاب لأبيه وسمح له بأن يرافقه للنوم والاستحمام، وأن يطعمه ويشاركه ألعابه المفضلة.

لا شك أن جائحة كورونا هي أسوأ كوابيسنا على الإطلاق. ولا شك أن الجميع تضرر بدرجات. لكن مشاهداتي للنساء على وجه الخصوص – على الأقل في محيطي الشخصي – جعلتني أدرك أن معاناتهن وتحدياتهن تضاعفت، وأنهن في حاجة حقيقية إلى تقديم المساعدة على مستوى المهام وعلى المستوى النفسي. هذه المساعدة التي تحصل المحظوظات منهن فقط عليها.

في هذا العام، تعلمت كيف أحارب بقوة لأحافظ على ما تبقى لدي من مساحات خضراء، لأدفع عن روحي ضد القتامة واليأس. كلما شعرت بأن العالم يضيق الخناق حول عنقي، أنفض أفكاري السوداء وأستعيد في قلبي نقاط الضوء وألتمس بعض الأمان. أقول: أنا قوية ولن أسقط، يحق لي الارتباك، التعثر، الضعف، الانكسار، لكنني قادرة على التجاوز والبدء دوما من جديد.

تعلمت أنه لا يمكن لأحد مساعدتي لو لم أساعد نفسي أولا. بدأت بمنح نفسي بعض الدلال الذي تستحقه. وأوليت المزيد من الاهتمام للتفاصيل الصغيرة التي تمنحني السعادة، كتناول الإفطار رفقة صديقة، أو قضاء نهار كامل بمفردي أنظر إلى السماء المفتوحة وأمامي كوب من القهوة وقطعة حلوى. أذهب إلى صالون التجميل لأجل بعض البهجة أو أشتري بعض الملابس. تعاملت مع نفسي كأن لدي طفل ثانٍ يحتاج إلى الصبر للتعرف على طباعه ورغباته واحتياجاته، وإلى احتضانه حين يكون متعبا ومنزعجا حتى يهدأ. منحت نفسي الطاقة لأحافظ على قدرتي على المنح وعلى الوجود بخير بين أحبائي في هذا العالم المعقد.

أحتاج إلى الضوء لأظل مصدر الشمس في بيتي الصغير. 

 

Share Button

جوابات مفتوحة

جلسنا في غرف مغلقة، في عزلة، جائحة عالمية، حدث كوني.  الأحداث الكونية محددة أيضا بتجاربنا كنساء…

كنسويات في العزلة والغرف المغلقة، كان لتجارب النساء خصوصيتها. لذا فالنصوص والكتابات التالية هي استجابة لدعوة أطلقتها مجموعة “اختيار” في يونيو 2020 كمحاولة لخلق مساحة مفتوحة وخفيفة للتدوين حول تيمة “كوفيد” والأفكار التي علقنا معها في عزلتنا الخاصة والعامة خلال العام. هي دعوة مفتوحة لتوثيق مشاعر وأفكار وضيق وصراعات سياسية.

جائتنا أشكالا مختلفة من الحكي والسرد – سواء مكتوب أو بصري –  تحمل العديد من الهموم والأفكار المتقاطعة في وقت “كوفيد”. وتنقل المساهمات هذه الأفكار في محاولة للتواصل وكسر العزلة، وخلق حالة من الدعم حول الفترة السابقة والحالية، ليس فقط من عدسة الهم العام وخطر الفيروس، لكن أيضا ما يرتبط بالظروف الحياتية التي كشفت العزلة والخوف مدى هشاشتها. 

سوف تستمر المساحة في استقبال وتجميع وتوثيق كل المواضيع المختلفة المتعلقة بالوقت الحالي، لنستكشف معا ما يعنيه العام والخاص، والشخصي والسياسي، فعليا في حيواتنا اليومية. 

(PDF) لتحميل وقراءة الإصدارة كاملة

مَرَضْ – راوية صادق 

من الأرشيف الشخصي للجائحة – هند سالم

مشروع كتابي وبصري:  العالم بيتغير… ولّا أنا اللى بتغير -أمل حامد / سارة بانقا 

حين كشفت لي أزمة كورونا أن قيودي سببها المجتمع لا الوباء – وفاء خيري 

الكورونا مافيهاش مرجلة   : إنسانية الهلع وجندرية التظاهر – قسمة كاتول 

ما يدفعنا للحلم بالضي وقت العتمة –  أميرة موسى

هكذا أفضل –  سوسن الشريف 

أن تكوني أما مغتربة في زمن الكورونا

أحارب لأجل مساحتي الخضراء

الصداقة على الإنترنت كسلاح لمواجهة العالم القاسي

هَرَب // وَهَن

Share Button