من الأرشيف الشخصي للجائحة

كتابة: هند سالم

نسوية، ومديرة دار نشر هن elles

قالت لي ابنتي ذات العشرة أعوام بكل ثقة “سيضم كتاب التاريخ فصلا كاملا عن كورونا، سندرس كل الأحداث التي نمر بها”. ثم ابتسمت وأكملت “أخيرا سندرس أشياء تهمنا، أمور عشناها وشعرنا بها”. جُمانا لا تعرف أنها لن تدرس الجائحة في كتاب التاريخ والكتب المدرسية كما عاشتها. لم أخبرها أن الجائحة ستمر عبر الكتاب لتذكرنا بالأرقام الرسمية لعدد الإصابات والوفيات، ومآثر الدولة في احتواء الأزمة. لم أخبرها أن الأرشيف الرسمي لا يحفظ ذاكرتنا لأنها ذاكرة لا تعنيه كثيرا، وأنه أرشيف غير محايد، أرشيف يحاول صياغة الذاكرة التى يريدها… لكن أين ستقرأ ابنتي يومياتنا  وأرشيفنا الشخصي؟ صمتت جمانا وذهبت لتلعب وحدها، وتركت لي سؤالا مقلقا، ربما هذا ما دفعني إلى كتابة يوميات الجائحة لأترك لها شيئا تقرأه ويحفظ ذاكرتها ويصنعها. 

هذا الأرشيف لا يضم كل يومياتي أثناء الجائحة، فقد انتقيت أياما بعينها وجدتها هامة لأنه يتداخل فيها الشخصي بالعام، وتبرز التقاطعات بين السياسي  وحياة النساء. أما باقي اليوميات، فقد تركتها لجُمانا لتقرأها حينما يخيب ظنها بكتاب التاريخ الذي تنتظره. 

الأسابيع  الأولى للحجر المنزلي

تسير الأيام والعمل بشكل روتيني وعادي على الرغم من وجود أخبار حول فيروس كورونا الذي يصيب أعدادا كبيرة من البشر في العالم. لكننا في العمل نخطط لإقامة فعاليات نسوية بمناسبة اليوم العالمى للمرأة في الثامن من مارس، ويوم النساء المصريات في 16 مارس. تتوالى الأخبار حول الفيروس ووجوده في مصر، وفجأة ندرك الخطر ونتخذ قرارا بوقف كل الأنشطة لأجل غير مسمى، ويذهب كل منا لبيته لنواجه حياة لم نختبرها من قبل؛ حياة العزل المنزلي. فجأة يتوقف كل شيء، وتصبح الحياة غير قابلة للاستخدام، ويصبح الخوف هو اللاعب الأساسي في واقع مجهول. بدأت في تعليم ابنتي الخوف؛ الخوف من الشارع، من الناس، من التلامس، من كل شيء. أصبح الحضور البشري الذي يخفف عنا وينقذنا من وحدتنا هو الخطر لأنه قد يحمل معه ذلك العدو غير المرئي الذي قد يتسلل إلى أجسادنا ويصيبها بالعطب. ابتعدنا عن كل الأصدقاء والأقارب والأحباب، واستسلمنا لعزلة فرضها علينا الخوف، وتبنينا شعار أبلة فاهيتا “مش هنسلم مش هنبوس مش هننشر الفيروس”.

قدر من الدقيق يماثله قدر من الحليب مع بيضتين وقالب صغير من الزبدة، ومبشور قشر البرتقال مع مقدار محسوب من السكر. تُمزَج المقادير بصبر واعتناء، ثم يوضع هذا الخليط في فرن ساخن لتخرج  كيك البرتقال بعد نصف ساعة. هكذا قضيت معظم  أيام شهر مارس وأنا أصنع الكيك لأول مرة  في حياتي، فقبل الجائحة كنت اشتريه جاهزا، أو أشتري مسحوقا جاهزا يوضع في الصينية على عجل، مع قليل من التقليب وإضافة المكونات التي تذكرها الإرشادات على ظهر العلبة. هكذا صنعنا بهجتنا اليومية، كانت مهمة إعداد الطعام مهمة بها الكثير من المغامرة والتشويق والتحدي. سأتحدى نفسي اليوم وأصنع جلاش باللحم المفروم أو مكرونة بالبشاميل، أو طهي اللحم بالطريقة الفلانية. كنت أشعر بالابتهاج وأنا استخدم خيالي وحواسي لتحويل النيء إلى مطبوخ له قوام ومذاق ونكهة وشكل… وبدأت مرحلة الخلق الخاصة بي. نعم إنني أخلق شيئا جديدا من مواد أولية، مثل الإله الذي نفخ فى الطين فأصبح روحا. هكذا أنفخ في أعواد المكرونة والطماطم والبصل واللحم المفروم لتصبح بولونيز. 

كنسوية لم يكن طهي الطعام من أولوياتي، وكنت أراه مهمة مملة وبليدة لأنه مرتبط بالدور الرعائي الذي يقع على كاهل النساء، فى منظومة لتقسيم الأدوار تتحدد على أساس النوع الإجتماعي. لذا، تصبح مهمة إعداد الطعام – بالإضافة للمهام والأدوار الأخرى – ليست باليسيرة. إلا أنني حاولت معرفة الأسباب التاريخية التى جعلت من الطبخ مهمة لا تنال التقدير الكافي رغم أهميتها القصوى، نظرا لارتباطها باستمرار الحياة. ووقعت يدي على كتاب أظنه من المصادر الهامة في أنثروبولوجيا الطعام؛ “الطبخ في الحضارات القديمة” للكاتبة “كاثي ك. كوفمان”. يذكر الكتاب أنه بعد أن “قضى المماليك على الجيش الانكشاري، امتد الأمر ليشمل القضاء على ثقافة الطعام، إذ كان يحتل نظام الطبخ موقع المركز في جيش الانكشاريين. (تذكر معظم المصادر أن من قضى على الانكشاريين هو الجيش العثماني في عهد السلطان العثماني محمود الثاني). يصفهم الدكتور علي الوردي بقوله:”إنهم يعطون أهمية كبيرة للطبخ وتقديم الطعام. فهم مثلا يقدسون قدور الطبخ ولا يفارقونها حتى في أوقات الحرب، ويدافعون عنها دفاعا مستميتا، إذ هم يعتبرون ضياعها أثناء الحرب أكبر إهانة تلحق بهم، وهم إذا أرادوا إبداء عدم الرضا من أوامر رؤسائهم، قلبوا القدور أمام بيوتهم. ومن مظاهر اهتمامهم بالطبخ أن قائدهم الأعلى يسمونه “جوربجي باشي”- أي طباخ الحساء. ويقدم المؤرخون أرقاما مبالغا فيها حول المؤن ومواد الطبخ التي كانت ترافق الجيش الانكشاري في تحركاته. وحين قضى المماليك على الجيش الانكشاري، قضوا معهم على ثقافتهم المطبخية. فلم يعد الرئيس هو الطباخ الأكبر، بل القائد العسكري الأكبر، وصار الطباخ الأكبر هو رئيس الخدم. وتعززت هذه النظرة الازدرائية مع الاحتلال الإنجليزي لأغلب البلدان العربية، إذ نقل الإنجليز معهم كبار طباخيهم من الجيش الهندي المرافق لهم. وظلت النظرة الدونية تلازم فن الطبخ الحديث، إذ بقيت الوظيفة المطبخية متروكة للخدم والأميين.” ربما يُعد هذا أحد الأسباب التي جعلت من الطبخ أحد أدوار النوع الاجتماعي التي تلصق بالنساء، خاصة حينما لا تدخل في نطاق العمل مدفوع الأجر. 

اكتشفت خلال هذه الفترة كيف يمكن للنساء (باعتبار أن النساء فى أغلب البيوت هن اللاتي يقمن بمهمة الطبخ) أن يسكبن أنفاسهن في الطعام الذي يعدونه. وعلمت الرغبة في التقدير بإبداء الإعجاب عند تناول القضمة الأولى. لقد كنت محظوظة لأن أهلي يقدرون ما أقوم به، ولا يرونه دورا “طبيعيا” يجب القيام به، في حين تقوم نساء أخريات بإعداد أطباق أكثر صعوبة من التي أقوم بإعدادها ويلقين معاملة سيئة أو يقابل عملهن بلا مبالاة . 

أثناء استمتاعي بالطهي وقراءاتي حول الموضوع من منظور نسوي، كانت تتعالى أصوات الآلاف – وربما الملايين – من النساء فى كل أنحاء العالم طلبا للنجدة من العنف الأسري. وفي الوقت الذي أصنع فيه بهجتي، كانت معاناة النساء تتزايد لأنهن حبيسات مع  رجال معنفين. فلا يكاد يمر يوم دون أن نسمع صرخات النساء وهن يستنجدن لوقف العنف الموجه لهن، في وقت لا يجدن فيه أي ملجأ.  تحول الخوف من الفيروس إلى الخوف من الشريك، وأصبحت عبارة “لا أشعر بالأمان في المنزل، فماذا  يمكن أن أفعل؟” تتردد في كل الأرجاء. وتصبح عبارة “احم نفسك – خليك بالبيت” عبارة متناقضة، فالبيت ليس مكانا آمنا للكثير من النساء.

 لم يهبط العنف المنزلي على النساء كما هبط علينا “كوفيد 19″، فهناك احصائيات تؤكد أن 1 إلى 3 من نساء العالم تعرضن لعنف جسدي أو جنسي على الأقل لمرة واحدة في حياتهن، وغالبا ما يكون ذلك على يد شريكهن الحميم. إلا أن هذا العنف زاد بنسبة كبيرة جدا قد تقدر بخمس مرات أثناء أزمة كورونا، بسبب وجود الرجال الدائم في البيت إثر ظروف الحظر. كنت أتابع حكايات النساء المعنفات عبر وسائل الإعلام المختلفة، وأفكر في الأشياء التي يمكن أن تمنحهن البهجة في هذا الوقت العصيب.. لا شيء يمكن أن يمنح امرأة تُضرب وتُهان وتشعر بالإذلال أي شعور بالبهجة.

يونيو الحزين  (يوم ما سابت سارة الأرض وطلعت للسما)

استقيظت اليوم على خبر انتحار سارة حجازي. أول شيء التفت إليه كان تاريخ اليوم، وكأن عليّ أن أدون هذا التاريخ وأحفظه جيدا. كان هذا ما أقدمه لسارة، أن أحفظ تاريخ موتها. لم أكن أعرف سارة بشكل شخصي، لكنني كنت أتابعها، وأحببت شجاعتها حينما أعلنت اختلافها، كذلك تابعت الحملة الأمنية العنيفة وردود أفعال مؤسسات الدولة على أفراد مجتمع الميم بعد حفل “مشروع ليلى” الذي أُقيم في مصر عام 2017. وشاهدت يومها صورة سارة وهي ترفع علم الرينبو، وكان وجهها يشع فرحة واطمئنان لمستقبل ظنته آمن عليها وعلى كل شخص مختلف.

لا يمكنني هنا الكتابة عن حجم الكراهية والعنف الذي انتشر عبر السوشال ميديا حول أحقية سارة في الحصول على الجائزة الكبرى “دخول الجنة”، لأنه – بالتأكيد – ستصيب سارة ومن يسير على نفس النهج كل اللعنات الممكنة لأنهم/هن عارضوا/ن نظاما اجتماعيا – مصون كنظام أخلاقي ونظام للسعادة،” على حد تعبير سارة أحمد في كتابها “نسويات قاتلات للبهجة”. لكني سأكتب عن انتصار سارة حجازي؛ لقد قتلت سارة بهجة هذا المجتمع والتصورات المنسوجة حول ما يجب أن تكونه وتفعله وتشعر به. لم ترض بمقعدها على المائدة الذي أُعد لها. لقد قلبت سارة المائدة بمقاعدها على رأس من يجلسون عليها، لذا كان لابد من عقابها، بالحبس ثم النفي الاختياري، ثم الموت. على الرغم من كل هذا، لا يمكنني حساب المكسب والخسارة بالمعايير التقليدية. كان يمكن لسارة أن تعيش حياتها في الخفاء، لكنها قررت بكل شجاعة أن تعلن عن نفسها بصوت مرتفع، وأن تطلق سهامها في وجه كل الجدران المحيطة بها. لذا، أراها منتصرة ومبتسمة رغم القسوة التي غلفت عالمها. 

ظللت لأيام مشغولة بأشكال المقاومة الفردية والجماعية التي يمكن أن تنتج في ظل واقع يتسم بالانغلاق التام، وأمام سلطة تلعب لعبتها المعتادة ضد الأجساد التي لا تقبل أن تخضع للشبكة الانضباطية التي تُفرض عليها، وتضع النساء محل المساءلة والمراقبة المستمرين، حتى ونحن نعاني من وباء غير عادل بالمرة، خاصة مع النساء. هل يمكننا الانتصار على هذه السلطة دون أن نقدم حياتنا ثمنا لهذا؟ ألم يقل “ميشيل فوكو” إنه ما دامت هناك سلطة، توجد عُقد ومراكز للمقاومة تتناثر بكثير أو قليل من الكثافة فى الزمان والمكان؟ لا يمكنني الادعاء أني وصلت لإجابة أو  صياغة رؤية تفاؤلية ساذجة، لكني أعلم أن كتابة هذه اليوميات/الأرشيف الشخصي هي نوع من المقاومة وعدم الاستسلام، ربما تكون الأقل كثافة. لكن أراهن على أن هناك الكثير من النساء اللاتي يصنعن أشكال مقاومتهن الفردية التي تحمل ملامحهن وصبغتهن الشخصية، وأن هناك الكثيرات اللاتي يحققن انتصارات صغيرة يومية، تساعدهن على الإستمرار والبقاء. وربما يأتي اليوم الذي نفرض فيه مقاعدنا حول المائدة بكل عناد.

Share Button

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.