كل مقالات Ikhtyar

هَرَب // وَهَن

كتبت: نور كامل 

ترجمة: سماح جعفر

أفكر في الرحلة بالسيارة عبر أركنساس في صمتٍ حَنُون مع من أحب، لرؤية متحف فني ممول بواسطة جماعة وول مارت ومليء بالفن الأمريكي في منتصف اللامكان، كم كانت كل الأشكال جميلة، كل الوميض

لا أفكر في معضلة التعرض للمرض خلال محاولاتي إيجاد ممرضة أو دار رعاية لبابي بعد أن أوقفت السكتة الدماغية دورة حياته القصيرة بالأساس، والتي صارت أقصر بسبب الجائحة، لأعتني به بنفسي خلال الجزء الأكبر من هذه السنة

 

أفكر في الأوتيل الأحمر في تشيانغ مي والمقهى في دوره السفلي، حيث رأيت عابرة تايلندية جميلة تجلس باشّة مع من تواعد، عادية جدًا – شيء لم أره من قبل ولم أفكر قط بأنني سأكون محظوظة كفاية لأراه – أحسست على الفور أن، “بإمكاني العيش هنا”، ولا زلت أفكر في العيش هناك فقط، في تلك اللحظة

لا أفكر في كل الأداء الجندري الذي قمت به جسديًا وعقليًا، لأجلي وللآخرين، لأبقى “آمنة” مهما عنت هذه الكلمة الآن في مكان أدعوه بشكل يائس “الوطن” – حيث علم قوس قزح رمز للنفي، بدلًا عن الآمل، لكن بإمكانكِ ارتدائه مطبوعًا على كمامة في حالة أن ما تبقى منكِ يبدو “سَوِيًّا”

 

أفكر في تلك الرحلات الطويلة إلى الساحل كل صيف، وماما خلف المقود، بينما أحدق في الجزء الخلفي من عنقها بحب وانبهار في كمالها، تلك الوحدانية المستقلة لعمل كل شيء لأطفالها بنفسها

لا أفكر في عدد جلسات الكيماوي التي تحتاجها، وكيف بإمكاني بعدها أن أرى أي شخص ليس من العائلة المباشرة دون أن أحس بالذنب، دون أن أحس أن المغادرة والعودة إلى الوطن مرتبطة بوفاة شخصٍ آخر

 

أفكر في الوقت الذي ذهبت فيه إلى سان فرانسيسكو دون أن أخبر رفيقة روحي أولًا، وفاجأتها أمام بابها بينما تفكُ ضفائرها وكل ما تمكنت من فعله هو أن تصرخ فيَّ بسعادة

لا أفكر في أنيَّ لم أرها منذ خمس سنوات، كيف مزقتنا وربطتنا سنوات التباعد تلك عدة مرات في المحبة وفي تمددات الصمت، أننا كان يجب أن نقضي العيد ميلاد معًا، أخيرًا، وكيف أردت أن أريها وطني وأملت بطريقة ما أن هذا قد يساعدها على أن تتفهم

 

أفكر في الليالي التي قضيتها في سرير ما وعن محاولات إقناعي في الصباح أن أبقى، محاولات إقناعي بالمحبة رغم أننا نعرف أنني لن أفعل، ليس بشكل كامل، ليس بالطريقة التي يمكن لأي منا الاعتراف بها

لا أفكر في الشعور بالارتياح الذي يأتي بعد انفطار القلب، الذي يأتي بعد أن تدركي أنك كنت تعيشين في متاهة صنعها شخص آخر، لم يكن بها مساحة لك قط

 

أفكر في المنزل المتكلف في الجونة مع حوض السباحة والجاكوزي الذي استأجرته أختي لإبنها لكي لا يحس أن الجائحة أعاقت طفولته بأي شكل، متظاهرة أنه ليس هناك كوفيد في الجونة

لا أفكر كيف كان الجميع هناك يتجولون دون كمامة وكأن ليس هناك كوفيد في الجونة، غير متأثرين بأي شيء، بهذه السنة بأكملها – بمن فيهم أنا، التي نسيت للحظة شعور أن تحبسي أنفاسك خلف كمامة

 

أفكر في آخِر مرة كان بابي فيها صاحٍ فعلًا، حين قاد لتسع ساعات عبر الولايات مع أختي لكي يراني فقط خلال عطلة أسبوعية في ممفيس، وكيف حين سألت مازحة عن كيك الشوكولاته المفضل عندي من دالاس – كانت ينتظرني هناك في المقعد الخلفي للسيارة، شيء بابي فقط سيصر على فعله: القيادة بقطعة كيك لأجل أبنته فقط لأنها أرادتها

لا أفكر في أي شيء، ملتفة ببطانيته الأخيرة، خاصة بعد أن تباعدنا اجتماعيًا لتسعة أشهر ومات على كل حال

 

أفكر في ليالٍ بأماكن غريبة والشرب مع غرباء ساعدوني في الوصول إلى المنزل، آمنة في الظلام، لأن هذا ما عليك فعله

لا أفكر في كل الرجال الذين حطموا أجسادًا، حطموا قلوبًا، حطموا أي إرادة في السماح للرجال بالدخول

 

أفكر في كل الحرية والطمأنينة التي كانت لدي لأتمكن من قضاء ساعة وأنا أمشي بين الجامعة والمدينة، خلال شوارع هادئة وحدائق، أضرحة وأشجار، أجرب صفيري حتى أتمكن من تصفير أي أغنية تمر على بالي

لا أفكر في عدم استطاعتي الصفير وأنا أرتدي الكمامة، بأنفاس متقطعة، مَأخُوذة، مكتومة، غير متناغمة – لا أحمل أي أغانٍ هذا العام، والموتى لا يبادلونك الصفير على أي حال.

جوابات مفتوحة

Share Button

الصداقة على الإنترنت كسلاح لمواجهة العالم القاسي

كتبت: وفاء 

كنت طفلة في سن العاشرة حين بدأت تبادل الكلمات في مربع محادثة إلكترونية (شات) لأول مرة مع شخص لا أعرفه. ولا أعرف هل أعتبر نفسي من المحظوظين، كأحد أبناء جيل الألفية الذين عاصروا بدايات الإنترنت في طفولتهم، أم لا. لكن أظن أنني محظوظة.

كنت طفلة مليئة بالأحلام والحياة، وسرعان ما بدأت أكبر وبدأت ملامحي الأنثوية تشتد، لتحتد معها قيودي الأسرية والمجتمعية كذلك. كنت فتاة صغيرة فعلًا، لكن انغلاق الحياة حولي كان أكثر مما ينبغي أو أحتمل، فلم يكن متاح لي أن أجلس في غرفة مُغلقة بمفردي، إذ ليس لدينا أي شكل من أشكال الخصوصية (خاصة للفتيات). ولما وضعت رمز مرور لهاتفي، ثار أبي ومنعني من الاحتفاظ برمز المرور، في حين أن أحدا لا يقترب من هاتف أخي بتاتًا، فهو رجل حتى وإن كان يلعب ببنات الناس! بجانب أنه لا خروج من المنزل بمفردي إلا لأسباب دراسية، وهو وضع دام لأكثر من 20 عامًا من عمري! ولهذا، رغم حبي للناس والأصدقاء وكل شيء، لم يتبق لي سوى وسيلتين للانفتاح على العالم، الكتب والإنترنت. وأنا هنا لن أحكي عن الكتب التي كانت – ولا زالت – أحد نوافذي على العالم، والتي جعلتني ما أنا عليه اليوم. بل سأتحدث عن الإنترنت وأصدقائه الذين وجدت فيهم ملجأ كبيرا من الظلمات التي عشت فيها لسنوات طويلة.

لا أذكر كيف كانت أول محادثة مع شخص غريب، لكن هذا لا يهم، فالحديث باسم مستعار ومعلومات مستعارة مع شخص لا أعرف إن كان يقول أي شيء حقيقي عن نفسه ليس أمرا يعول عليه كثيرا. لكن تغير الأمر مع دخولي إلى العوالم الزرقاء، الأكثر ارتباطا بواقعنا المعاصر، وبذلك أعني فيسبوك وتويتر.

بدأت رحلتي مع فيسبوك في المرحلة الثانوية عام 2012 تقريبا. وكان أول رد فعل تجاه تسجيل حساب وإعطاء بياناته لأبي (ليفتحه متى يشاء ويكون رقيبا على ما أفعل) هو الرفض والتجهم، لأني فعلت ذلك من وراءه!

مرت أشهر قليلة وأُقفل الحساب بسبب صدفة قدرية رضي عنها أبي، وعدت أدراجي بلا أي حضور إلكتروني، وظللت ساخطة على حياتي البائسة التي لا أقدر فيها على أن يكون لدي حساب على موقع افتراضي! ربما لأنني سألوث شرف العائلة بهذا الحساب، أو لأن أبي “يثق في لكنه لا يثق في الطرف الآخر” كما كان يقول دائما. وفي المقابل، كان لدى أخي حسابات كثيرة دون أدنى مشكلة، فلا بأس عليه من الآخرين. أما الخوف كله ينصب على الفتيات وحسب، سواء كانت مخاوف حقيقية أو أوهام، لنكون – كفتيات – أكثر انغلاقا وخوفا من مواجهة العالم الخارجي بمفردنا.    

تكرر الأمر في الجامعة، وبدأت رحلتي الشرعية والرسمية مع فيسبوك، وسرعان ما اختنقت لأنني لم أقدر على كتابة أي شيء دون تعليق غاضب أو لاذع من أبي، حتى وإن كان ما أقول هو كلمة “يا بت” لإحدى صديقاتي في التعليقات. اختنقت لكوني يجب أن أطابق المعايير المطلوبة، وهي ليست أخلاقية وحسب، بل حتى معايير “الهزار والشبحنة” صارت مُقيدة هي الأخرى. لهذا ذهبت إلى العالم الآخر الأقل زرقة، وهو تويتر، الذي بالتأكيد لن يعرفني فيه أحد من أهلي لأنهم كانوا أول من أحظرهم، وفعلت! 

وبدأت رحلتي الافتراضية مع الأشخاص الأغراب الذين تحدثت معهم عن كل شيء في الحياة، وأعتبر نفسي نضجت بسبب ما عاصرته معهم شخص بعد آخر. هذا بخلاف حالة الحنق والخوف من أن يكتشف أبي يوما أن لي حسابا على تويتر، أعلق فيه لشاب أو أكتب مقطع من أغنية رومانسية لحماقي! كان هذا جل ما يرعبني لسنوات طويلة، ولأجله كنت أحذف تويتر مرارا وتكرارا من هاتفي حتى إذا فَتشه أحد، لا يكتشف حسابي ويرى عُهري وحديثي العادي جدا مع الشباب! 

لا أذكر عدد لحظات الفزع ونوبات القلق التي مرت عليّ بسبب هذا التخيل، هذا وحسب! وكأنني أبيع متفجرات مثلا وأخشى أن تداهمني الشرطة في أي لحظة! لكن لندع ذلك جانبا، فألمي نابع من ذكورية أسرتي وليس من تويتر الذي لا زلت أحبه، وأعتبره نقطة أكشف فيها عن هويتي الحقيقية، وفيها يقول لي من يعرفني ويتابعني جيدًا: “أنتي محجبة على فيسبوك وبتقلعي على تويتر”، ولا أغضب من ذلك لأن أحدا لن يقبل أن يراني بحقيقتي وبأفكاري التي اخترتها لنفسي، لا بالصورة النمطية التي يريدونني أن أكون عليها. لكن دعنا من هذا كله. 

مرت السنون ولم تتقدم حياتي إلا على الإنترنت. المتابعون يزدادون، ودائرة الأصدقاء تكبر. تعرفت على من يريد أن “يشقطني”، وعلى من يريد أن يستغلني، وعلى أصدقاء يكنون لي الحب ويقدمون لي النصيحة الصادقة أيضا، ومنهم من التقيت به بعد سنوات من المحادثات الافتراضية.   

بمرور الوقت كان يرحل أو يختفي كثيرون ليظهر آخرون غيرهم، كما هي الحياة تماما. أحزن على رحيل هذا وأسعد باقتراب هذا، فهم جزء من عالمي رغم كل شيء. لكن رغم سوء بعض من التقيت منهم، إلا أنني حين أسترجع رحلتي على الإنترنت أرى كم هو اختراع جميل لأنه جعلني أتآلف مع أصدقاء خففوا علي كثيرا من غضبي، وهونوا من سخطي، وكانوا لي ملجأ حانٍ من رياح الألم. أتذكر صديقتي “شيرين” التي لم تعد صديقتي الآن، الأيام الطويلة التي قضيناها سويا وهي تخفف عني وأنا أخفف عنها. كنا صغيرتين يغمرنا الجنون، وكانت هي أول من بُحت له بكل ما يضايقني دون أن أخجل أو أشعر أنني لا بد أن أضع حدودا مع كل شخص أتحدث إليه. كنت أتبادل معها الرسائل طوال اليوم، لكنها كانت أول من قطع حبال الود في العالم الواقعي. ورغم أنني ابتعدت تماما، إلا أنني لا أنسى كل وقت جميل قضيناه سويا في فضاءات الإنترنت.

أتذكر صديقتي تلك، التي فتحت لي بيتها عندما سافرت لأول مرة، وأتذكر الأخرى التي شجعتني طوال حياتي على السفر وتجربة الاستقلال لأول مرة، والتجلد لأن الحياة ليست سهلة دائما، وأقنعت والدتي بأهمية ما أفعل وأثرت في رأيها كثيرا. ولن أنسى ما حييت ذلك الرجل الذي يعني لي الكثير، الذي عرفته كأب وقارب أن يكون حبيبا. ورغم أن علاقاتنا في البدء كانت بعيدة جدا، إذ كان كل منا في بلد آخر وثقافة مختلفة، إلا أنه نصحني بصدق واهتم بكل ما أشعر، وإن كان ضجرا في تغريدة ساخطة أو في رسالة عابرة.

أحببت هؤلاء الموجودين والراحلين، وأحببت الأوقات الصادقة التي جمعتني بأصدقاء يشبهونني كثيرا، حتى وإن لم يكن طريقنا واحد لكن رؤيتنا للحياة واحدة. معهم شعرت أنني لست وحيدة في هذا العالم، وأن هناك أشخاص آخرين يمكنني أن أتحدث معهم دون أن أشعر بغرابة أفكاري، أو أتلقي سيل من الأحكام الأخلاقية على ما أفعل.

لا أتحدث عن أصدقائي، هؤلاء الذين يمكن أن تجدهم في أي مكان في حياتك، بل عن هؤلاء الذين لن تجدهم في أي مكان، عمن جمعتكم الأفكار وفرقت بينكم المسافات، عمن جعلوك تُدرك أن في هذا العالم أشخاص يشبهونك وقلوب آسفة لحزنك. كأن تحزن على موت شخص مثلي الجنس والعالم من حولك يلعنه، كأن تعيش إنسانيتك ويقسم لك واقعك أن ما تفكر فيه عيب وحرام. 

إلى هؤلاء، الذي قد يتغيرون وقد يبتعدون، وقد تفرقنا شبكات الإنترنت مرة أخرى وتجمعنا بغيرهم، أحبكم، وأحب تآلف القلوب الذي نشأ فقط بفضل القدر أولا والتكنولوجيا ثانيا.  

منكم أستمد قوتي وأنتم من دعمتموني، وأدين لكم بأشياء جميلة لا حصر لها. سواء من قابلتهم وقضيت معهم أوقاتا أكثر ألفة، أو من لم أقابلهم حتى الآن، سأظل أؤمن بأن الصداقة – وإن كانت إلكترونية – رباط مقدس، يخسر من يمحوها من حياته.

Share Button

أن تكوني أما مغتربة في زمن الكورونا

 


كتبت: سارة ناجي

يوم في حياة أم مغتربة في زمن الكورونا 

أغلقت المدينة أبوابها، سُكرت المطاعم والمقاهي، أُقيمت مستشفيات العزل وقُننت الكمامات، دُشنت خطوط الهواتف العاجلة لتقديم المساعدة، تباعدنا اجتماعيا وأصبح نظام التعليم عبر الإنترنت. وفي غضون شهور، وجدت نفسي وحيدة في بلد غريب مع أطفالي، لا يمكنني الخروج لأن الوباء يتربص بنا في الخارج. أغلقت بابي في وجه كورونا، لكن كان هناك من يلاحقني داخليا؛ ففي أعماقي كان القلق والحزن ينهشاني نهشا بعد أن تضاعفت مخاوفي أثناء الوباء. ممن أخاف؟ أخاف من أشباح ذكريات الماضي. لماذا؟ تلك قصة طويلة للغاية، تعود جذورها إلى طفولتي المبكرة. لكن سأحكيها لكم:

حين كنت صغيرة، عشت رفقة عائلتي في المملكة العربية السعودية. ولما آن أوان العودة إلى أرض الوطن لم نعد خالين الوفاض، بل كان رأسا أبي وأمي محملان بالفكر السلفي الوهابي. ولأننا من صعيد مصر، فقد امتزج هذا الفكر الوهابي مع العقلية الصعيدية، ليكونا معا خليطا رهيبا من الممنوعات. لا مسلسلات ولا أغاني ولا أفلام ولا لعب في الشارع ولا اختلاط بالآخرين. لم يكن يوجد سوى أفلام الكرتون، بمواعيد صارمة تحددها أمي. لا صوت يعلو في المنزل فوق صوت صراخ أبي وأمي والشيخ الذي يتحدث عن عذاب القبر.

لم أفكر يوما في التمرد على سلطة والديّ، خاصة بعد ما حدث لإخوتي. فمثلا في أحد الأيام، جاءت أختى الكبرى بديوان شعر لنزار قباني، فلما رأته أمي أحرقته بالنار ثم لسعت يد أختي قائلة لها أن تلك اللسعة لا تساوي شيئا أمام نار جهنم. وقتها قررت ألا أُغضب أمي أبدا، ولهذا التزمت بأداء الصلوات وحفظ القرآن، وعكفت على مذاكرة دروسي خوفا من غضبها. لكن كل هذا لم يشفع لي عندها حين جاء اليوم المشئوم.

وفي أحد الأيام تعرضت للتحرش. ولأني غبية للغاية، قررت أن أخبر أمي التي جاء رد فعلها مفاجئا لي، إذ أبرحتني يومها ضربا، وقررت أني يجب أن أرتدي الحجاب في اليوم التالي. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ كانت تشتري لي دوما ملابس واسعة للغاية. وفي كل مرة أنزل إلى الشارع تسألني حين عودتي عما فعلت؟ ومع من كنت؟ حتى أدركتُ بمرور الأيام أنها تشك في سلوكي! كيف تأكدتُ من ذلك؟ حين كنت في الصف الثاني الإعدادي، تزوجت أختي الكبرى وأقيم زفافها في إحدى فنادق المدينة. وأثناء حفل الزفاف ذهبت إلى الحمام، وفي طريق العودة أوقفني أحد العاملين في الفندق ليسألني عن أمر ما. جاءت أمي في تلك اللحظة وهي غاضبة بشدة ومصممة أنني قد قضيت الوقت بصحبة هذا العامل في إحدى غرف الفندق!

بعد ذلك أصبحت أخاف بشدة؛ من كل شيء ومن أي شيء، حتى أصبحت أمشي في الشارع وأتلفت حولي. وحين جاءت المرحلة الثانوية، حصلت على مجموع مرتفع وقررت دخول إحدى كليات القمة، لا طموحا مني ولا حبا في الكلية، لكن حتى أهرب من البيت. لم توافق أمي على سفري من الصعيد إلى القاهرة الكبيرة، لكن أبي وافق على مضض في نهاية الأمر وهربت من البيت بهذه الطريقة.

انتهت سنوات الكلية بسرعة، وخفت من العودة مرة ثانية إلى البيت. ولهذا قررت أن أستكمل دراسة الماجستير رغم عدم حبي لمجال دراستي. وهكذا مكثت سنتين إضافيتين في القاهرة، وحين جاء أوان العودة، قررت أن أتزوج أول شاب تعرفت عليه في القاهرة حتى لا أعود إلى البيت. تزوجت بسرعة شديدة دون أن أتعرف عن قرب على زوجي ودون أن أكلفه شيئا. وبعد الزواج، اتضح أنني كنت مخطئة، لكن فات أوان الندم خاصة مع وجود أطفالي. والآن حان موعد إغلاق سيل الذكريات لإيقاظ الأطفال.

 

في الصباح.. كاتبة ومحررة ومعلمة 

أستيقظ كل صباح في تمام الساعة السابعة. أحضر الإفطار ثم أوقظ ابني الأكبر ليحضر دروسه أونلاين. أجلس برفقته قليلا لأن الدورس ليست باللغة العربية، وعليّ أن أمده ببعض المساعدة. بعد الانتهاء من الدروس، أنظف المنزل وأفتح حاسوبي من أجل العمل. أطلع على آخر الأخبار وأحضر مادتي التي سأعمل عليها. وفي أثناء ذلك يقاطعني أطفالي مئة مرة، فقد تعودوا أن يلعبوا ويتشاجروا حولي بصوت مرتفع. كثيرا ما أفقد السيطرة عليهم تماما، وأفقد السيطرة على نفسي لأنهمر في البكاء، لكن ليس لوقت طويل إذ ينادي عليّ صغيري تميم لأصب له بعض اللبن، ويرسل لي مديري بريد إلكتروني بضرورة الانتهاء من التقرير الذي سيُنشر اليوم. أنتهي من المادة وأرسلها لأساعد ابني في واجباته المدرسة.

في الظهيرة.. وقت الطعام واللعب

فور أن أغلق اللابتوب، أذهب إلى المطبخ لإعداد طعام الغذاء. لا يحب أبنائي أصناف الأكل نفسها، لذا أطهو أصنافا مختلفة. وبعدها نلعب سويا. يفتقد أبنائي مصر بشدة، ويشعرون أنهم عالقون في هذا البلد الذي فرض عليهم عدم الخروج إلا في ساعات قليلة. كل يوم يخبرني تميم الصغير أن “مصر مفيهاش كورونا، يلا بينا نرجع، عايز أشوف جدو وتيتا”. أحاول قدر الإمكان أن أنتزع من داخلهم إحساس الوحدة الموحشة لكن دون جدوى، فالوحدة أضحت مثل شبح يخيم علينا من علٍ دون أن ننجح في السيطرة عليه.

لا أحب أن يقبع أطفالي لوقت طويل أمام الشاشات، ولهذا حاولت أن أعرفهم على عالم طفولتي البعيد، حين كنت أشاهد “عهد الأصدقاء” وكرتون “أنا وأخي” على قناة سبيستون. يأتيني من يوتيوب صوت رشا زرق الملائكي ليعيدني إلى سنوات طويلة مضت. تتسلل الذكريات بين جوارحي لتملأ قلبي حنينا وألما. أنظر إلى نفسي الحالية لأجد أنني تغيرت كثيرا، وأكتشف أنني خُدعت من تلك الحكايات، وأعددت نفسي لعالم لم أكن أعرف عنه شيئا. فالخير لا ينتصر دوما على الشهر، والحياة قد لا تهدينا أبدا ضوءا في آخر النفق. وحين أفقت من غفلتي، لم يكن أطفالي يشاهدون معي ذكرياتي، فقد انسحبوا للعب بمكعباتهم الجديدة. حسنا، ربما ذلك أفضل. حين يكبرون، سأعلمهم أننا لا نملك عصا سحرية لتغيير الواقع، لكن علينا دوما الإصرار والسعي للحصول على ما نريد من الحياة.

في المساء.. أنا بصحبة القلق 

يخلد أطفالي للنوم أخيرا بعد أن ينتزعوا مني وعدا بأن نفكر في العودة للوطن في أقرب وقت ممكن. وبجانب السرير الصغير، يضع طفلي حقيبة سفره، ويضيف إليها لعبة كل يوم ويقول “ماما، أنا هاخد معايا العربية الحمرا وأسيب الخضرا”، ليقرر في اليوم الثاني أن يأخذ السيارتين.

في الليل، أشعر كأنني سأسقط مغشيا عليّ. أعيد أحداث اليوم مرارا وتكرارا، وينتابني خليط كبير من المشاعر يطغى عليهم جميعاً الإحساس بالذنب تجاه أطفالي الصغار الذين وجدوا أنفسهم فجأة بمفردهم، ويجب أن يكونوا على مسافة من كل الناس في الشارع. يأتي بعد ذلك الإحساس بالخوف؛ الخوف على حياتي وحياة أطفالي، الخوف من أن أفقد وظيفتي غير المستقرة بالأساس، والخوف من ألا أتمكن من دفع إيجار البيت وفواتيره الباهظة. إنها سلسلة لا تنتهي من الاضطرابات التي تشكل معا عالمي الحالي.

أستعيد فجأة سيل الذكريات الذي ينهمر دون توقف، إذ قرر زوجي في أحد الأيام أن نترك شقتنا المستقلة لنعيش في بيت عائلته. وكانت هذه بداية جحيم آخر، إذ كانت والدة زوجي وإخوته يتفننون في مضايقتي بكل الطرق؛ لماذا ترتدين البناطيل؟ أنت متزوجة، هل تحبين أن ينظر إليك الرجال؟ هنا أدركت أن شبح أمي أصبح لعنة تطادرني من جديد. لماذا يظن الجميع أني أركض وراء الرجال؟ وماعلاقة ملابسي بهذا الأمر؟ من وجهة نظر والدة زوجي، فالمرأة المتزوجة لا يجب أن تهتم بمظهرها أثناء الخروج للشارع. اشتدت المشكلات بيني وبين زوجي، ولأنني شخصية تهوى الهروب ولا تتقن سواه، قررنا أن نبدأ حياة جديدة في مكان آخر. لكن لم تسر الأمور بشكل جيد، لنقرر أن نأخذ استراحة أتحمل خلالها كل العبء وحدي. كيف يمكن أن نسمي هذه الفترة استراحة؟!

أن يحبكِ أحدهم لأنك تقومين بعملك على أكمل وجه، ثم يغضب فجأة لأنك تركتِ الأطباق غير النظيفة في الحوض لهو أكبر لعنة على الإطلاق. يرسل لكِ هذا الشخص إشارات متضاربة، فهو يحبك ولا يحبك، يحترمك ويحتقر كتاباتك، يمنعك من ارتداء الملابس التي يراها غير مناسبة ثم يتغزل في البنات الأجنبيات.

ينضب شغفي تجاه كل الأمور التي أحببتها يوما أسرع مما أتخيل. لا أدري تحديدا كم عدد الأيام والليالي التي قضيتها دون ونيس، حتى اكتست أيامي بحلة الوحدة. أفكر جيدا في العودة للوطن، لكن لا ينتظرني أحد هناك. أنهمر بشدة في البكاء، ثم أكفكف دموعي لأذكّر نفسي أنني لا أملك تلك الرفاهية. أطمئن على أولادي وأغطيهم جيدا ثم أعود للنوم، فأمامي غدا يوم طويل جدا.

 

Share Button

أحارب لأجل مساحتي الخضراء

 

 

كتبت: هدير الحضري 

في يوم دافئ من فبراير 2020، غادرت قطار النوم الذي حملني إلى القاهرة وأنا منتشية بالذكريات السعيدة. كنتُ قد أنهيتُ للتو رحلة قضيتها مع عائلتي لمدة أسبوع على متن سفينة نهرية من أسوان إلى الأقصر، لاحقا عرفتُ – ويا للمصادفة – أنها كانت البؤرة الأولى لإصابات كورونا في مصر.

في محطة القطار، وقعت عيني على مُلصق ورقي على الجدار مكتوب عليه بخط عريض “إرشادات للوقاية من فيروس كورونا المستجد”. شعرت بهلع غريب، أليست مصر حتى الآن خالية من الإصابات؟ أليس الخطر بعيدا جدا كما يبدو؟ ومع أن المنطق والواقع يقولان إن تفكيري في غاية السذاجة، لكنني في هذه اللحظة تحديدا قررت أن أحتمي في ظل شعوري الوهمي بالأمان. 

مضت عدة أيام بعد هذا التاريخ ليصدر بيان رسمي من وزارة الصحة المصرية كالقنبلة، ويعلن اكتشاف 12 حالة على متن السفينة التي كنا نستقلها. كانت الحالات المصابة موجودة في نفس توقيت إقامتنا، وأذكر كم كان لكلمة “كورونا” حينها وقع ثقيل ومخيف، أكثر بمراحل مما هي عليه الآن. قضينا عدة أيام في ترقب وقلق من ظهور أعراض العدوى، ثم مر الأمر بخير. لكن حياتي لم تعد كالسابق أبدا.

وبالتدريج، بدأت الجائحة تلقي بظلها على حياتي الشخصية لتزيدها صعوبة ومشقة. توقف ابني ذو العام الواحد عن الذهاب إلى حضانة الأطفال، وتأثرت قدرتي على العمل بشدة، فلم أستطع إنجاز عدة مشاريع صحفية كنت بصدد إنهائها. تراجعت حياتي المهنية وتحوّل قلقي إلى كوابيس جعلت نومي متقطعا ومحشوا بالخوف. زادت المهام المنزلية ثقلا، واستجد عليها تعقيم كل ما نشتريه بحرص شديد. اعتزلنا الأهل والأصدقاء، واحتمينا بجدران المنزل، وتضررت صحتنا النفسية بشكل كبير. لاحقا، حين قررت أخيرا بعد عدة أشهر أن ألتقي بأحد الأصدقاء وأغادر المنزل، شعرت بالاضطراب وبأنني غير قادرة على البقاء بالخارج أو الاستمرار في محادثة طويلة مع أي كائن بشري، وعدتُ على الفور. كذلك طفلي الذي أدار له العالم ظهره قبل حتى أن يعرفه، أصبح متوترا وخائفا من الجميع ومنغلقا على نفسه.

في هذا التوقيت، تطلّب منّي العمل إعداد تقارير صحفية عن تأثير جائحة كورونا على أوضاع النساء العربيات على مستويات مختلفة. وحين أنهيتها، شعرت بمزيد من الإحباط والتعاسة، وبدأ وحش القلق يتضخم في عيني من جديد ويتحفز ليلتهمني. كنتُ أرى أننا كنساء باختلاف ظروفنا الاجتماعية ندفع ثمنا باهظا لهذه الجائحة جسديا ونفسيا بعد أن تضاعفت مهام المنزل  ومسؤوليات الأطفال، وأصبحت الدراسة إلكترونية، إلى جانب التأثر المهني والاقتصادي. في إحدى القصص، أجريتُ مقابلات مع نساء عربيات من بلدان مختلفة عن تأثر أعمالهن، منهن من فقدت وظيفتها المرموقة في مجال السياحة الذي كان أكثر القطاعات تضررا، وأصبحت تقلل النفقات بشدة لتكفي الطعام اليومي فقط حتى لا تضطر إلى “مد يدها لأحد”. كثيرات فقدن وظائفهن مع إغلاق المطاعم وصالونات التجميل والأماكن الترفيهية، وتعرضت أخريات لتقليل رواتبهن مع الأزمات التي لاحقت النظام الاقتصادي وعدم قدرة أصحاب الأعمال على الوفاء بأجور العاملين. أما العاملات بـ”الأجر اليومي” فلم يكن لديهن أي اختيار، اضطررن إلى الخروج يوميا ومواجهة مخاطر العدوى لأن بقائهن في المنزل يعني غياب المبلغ البسيط الذي يساعدهن على العيش. و في السياق نفسه، دفع الوباء بعض النساء إلى اختيار ترك وظائفهن رغما عنهن، إما خوفا من الإصابة بفيروس كورونا (خاصة العاملات في المجال الطبي) أو لرعاية أطفالهن في هذه الظروف الخاصة والعصيبة.

بعد عدة أشهر من الوباء بدأت تظهر إحصائيات مقلقة تشير إلى الآثار السيئة المنعكسة على النساء. ففي 18 مايو/أيار الماضي، قال مركز قضايا المرأة المصرية، بناء على دراسة بحثية أجراها، إن 84% من النساء فقدن أعمالهن أو انخفضت أجورهن بسبب وباء كورونا. وكانت العاملات بأجر يومي هن الأكثر تضررا، وعانين من أجل البقاء على قيد الحياة. كما أشارت الدراسة إلى تدهور أوضاع النساء الفقيرات، ووجدت أن الاحتياجات الأساسية كانت أهم ما يؤرق المشمولات بالدراسة في فترة الوباء، مثل الطعام والعلاج والإيجار والفوط الصحية وألبان الأطفال والحفاضات، إضافة إلى معاناتهن من ضغوط نفسية وأعراض جسمانية سببها نفسي.

أما منظمة العمل العربية، فقالت في بيان لها في 29 مارس/آذار الماضي، إن الجائحة ستؤدي إلى إدخال المزيد من الفقيرات إلى سوق العمل غير المنتظم نتيجة الصرف من الخدمة الذي يلجأ إليه أرباب العمل بسبب الركود. كما ستتأثر رائدات الأعمال الصغيرة بشدة لأنهن يكافحن في بيئة تنافسية صعبة ودون وسائل دعم وتمويل كافية. كما أن النساء العاملات في السوق غير المنتظم، مثل البائعات في الشوارع وغيرهن، تعرضن لفقدان عملهن في ظل الإجراءات الاحترازية ضد الوباء، بالإضافة إلى احتمالية إصابتهن بالعدوى بسبب غياب وسائل الحماية.

كان هذا على المستوى الاقتصادي، أما على المستوى الاجتماعي فكان التأثير مرعبا أيضا. وظهرت تقارير عالمية تشير إلى ارتفاع نسبة العنف المنزلي ضد النساء مع قرارات الإغلاق والتدابير الاحترازية التي تطالب الناس بالبقاء في منازلهم. كما حذرت منظمة الصحة العالمية من أن خطر تعرض للنساء للعنف سيتفاقم بسبب الإجهاد والتوتر، وتفكُّك الشبكات الاجتماعية وشبكات الحماية، وفقدان مصدر الدخل، وانخفاض إمكانية الحصول على الخدمات. وبرغم أن التقارير أشارت إلى زيادة نسبة المتعرضات للعنف إلا أنها رصدت أيضا انخفاض نسبة من يلتمس المساعدة منهن إما لحظر الخروج أو الخوف من العدوى.

 الوضع العام بمرور الوقت جعل الخوف جزءا أصيلا مني، عضوا من جسدي ومساهما في تكويني ورفيقا أبديا لا يمكن التخلص منه. قضيت شهورا طويلة وأنا أخشى ملامسة الأشياء والاقتراب من البشر، وتفيض عيناي بالخوف إذا لامس طفلي الصغير أي شيء، وأهرول إليه بالكحول. كل الأحلام والأمنيات المبهجة تبدلت إلى أفكار مزعجة وكئيبة. وتحولت ترتيبات إلى السفر إلى خطط للبقاء آمنين لأطول وقت ممكن. حتى الأمنيات التي اختزنتها لطفلي حين أكمل عامه الأول قبل بداية الجائحة  تحولت إلى قلق مفرط بسبب تأثر صحته النفسية وتأخر نطقه للكلام وشعوره بالرعب تجاه العالم. كل مساحاتي الخضراء تتبدد، ويأتي محلها أراضٍ بور بألوان كئيبة. أبحث عن نقطة ضوء أحيانا لأستمد بعض الطاقة وأواصل السير… أسقط ثم أنهض لأجل من أحبهم. 

كل هذا القدر من الخوف والحذر لم يحمني من الإصابة بفيروس كورونا بالطبع، ولا حتى جعلني متماسكة أكثر حين اكتشفت إصابتي. وحين فقدت حاسة الشم، شعرت بارتباك شديد وخوف. نظرت إلى طفلي ذو العامين ولم أدرِ ماذا أفعل. كيف سيفهم أنه لن يستطيع ملامستي أو النوم بجانبي؟ لن أطعمه أو أغير ملابسه أو ألعب معه لأسبوعين على الأقل! 

حصل زوجي على إجازة من العمل ليرافقه، في حين بقيتُ أنا معزولة ووحيدة في إحدى غرف المنزل، وعلى يميني منضدة مكتظة بأقنعة الوجه والأدوية والكحول. اختبرت أياما لم أتوقعها، وكنت أميل إلى التصديق بأنه مجرد حلم عابر وسأستيقظ في الغد ليكون كل شيء قد انتهى. لكن الأمر الإيجابي أننا كأسرة اكتشفنا أن هناك الكثير من المهام التي كنتُ أقوم بها لطفلي كامرأة وأم استطاع أن يقوم بها آخرون أيضا. كنتُ أظن أن طفلي لن يستجيب سوى لي. لكن التجربة أثبتت العكس، فقد استجاب لأبيه وسمح له بأن يرافقه للنوم والاستحمام، وأن يطعمه ويشاركه ألعابه المفضلة.

لا شك أن جائحة كورونا هي أسوأ كوابيسنا على الإطلاق. ولا شك أن الجميع تضرر بدرجات. لكن مشاهداتي للنساء على وجه الخصوص – على الأقل في محيطي الشخصي – جعلتني أدرك أن معاناتهن وتحدياتهن تضاعفت، وأنهن في حاجة حقيقية إلى تقديم المساعدة على مستوى المهام وعلى المستوى النفسي. هذه المساعدة التي تحصل المحظوظات منهن فقط عليها.

في هذا العام، تعلمت كيف أحارب بقوة لأحافظ على ما تبقى لدي من مساحات خضراء، لأدفع عن روحي ضد القتامة واليأس. كلما شعرت بأن العالم يضيق الخناق حول عنقي، أنفض أفكاري السوداء وأستعيد في قلبي نقاط الضوء وألتمس بعض الأمان. أقول: أنا قوية ولن أسقط، يحق لي الارتباك، التعثر، الضعف، الانكسار، لكنني قادرة على التجاوز والبدء دوما من جديد.

تعلمت أنه لا يمكن لأحد مساعدتي لو لم أساعد نفسي أولا. بدأت بمنح نفسي بعض الدلال الذي تستحقه. وأوليت المزيد من الاهتمام للتفاصيل الصغيرة التي تمنحني السعادة، كتناول الإفطار رفقة صديقة، أو قضاء نهار كامل بمفردي أنظر إلى السماء المفتوحة وأمامي كوب من القهوة وقطعة حلوى. أذهب إلى صالون التجميل لأجل بعض البهجة أو أشتري بعض الملابس. تعاملت مع نفسي كأن لدي طفل ثانٍ يحتاج إلى الصبر للتعرف على طباعه ورغباته واحتياجاته، وإلى احتضانه حين يكون متعبا ومنزعجا حتى يهدأ. منحت نفسي الطاقة لأحافظ على قدرتي على المنح وعلى الوجود بخير بين أحبائي في هذا العالم المعقد.

أحتاج إلى الضوء لأظل مصدر الشمس في بيتي الصغير. 

 

Share Button

   ٣. الذات والآخر

 

We are complicated creatures wanting very simple things

أفلام ببلاش لكل الناس، قعدات مزيكا لحد سريرك، لف في متاحف العالم من غير فيزا.

ستريم صوت ناس في تايم سكوير في يوم زحمة علشان متحسش إنك لوحدك… شوف ناس بتقضي يومها إزاي في أكتر فيديو عشوائي… أنت مش لوحدك… حفلات أونلاين لحد السرير. 

إحنا مع بعض ولّا لأ؟  اللي بيربطنا chat bar بس أنا لوحدي وسط كل دا، ولا أنتم معايا؟ لا لا أنا لوحدي…  بس أنا برضه مش عارفة! أنا حاسة زي كمان ما هما عملولي نور في حتة ضلمة، بس هم كمان  متلخبطين. هما كمان نفسهم في تواصل.

العالم وقف!

وسط التخبط فيه حاجة كدة كانت بتلمع وحسستني إني مش لوحدي، لما المهتمين بالفن والإبداع ابتدوا يلاقو طرق للتواصل معنا.

كأن فيه عملة واحدة العالم كله موجود جواها، بس ليها ناحيتين مختلفتين عن بعض.  

الأولى أنت مركز مع نفسك، والعزلة فرصة تكتشف وتعرف نفسك براحة بعيد عن كل حاجة. والناحية التانية أنت رافض تحس إنك لوحدك وبتدور على صلة مع اللي حواليك. من ناحية بنتعامل مع حزن جماعي، ومن الناحية التانية تضامن عشان نبدع ونتواصل ونحس إننا مش لوحدنا. كلنا بنحاول نلاقي طرق عشان نتأقلم. كلنا حاسين نفس الحاجات وبنحاول نعوضها.

It is strange how we find ways to adapt 

Share Button

۲. هستيريا

Longing for belonging: A connection where a pandemic is pausing everything around us preventing me from the one thing that makes life easier, the spontaneous touches, the laughs, carelessly touching everything around and being clumsy.

زحمة اللي بيحصل خلت عندي مشاعر مختلطة تجاه الأشياء. كان – وما زال – عندي غضب غير مبرر تماما ناحية الناس اللي بتحاول تدي طابع رومانسي لفكرة اللقاءات والتجمعات والديتس الفيرتوال، أو نوعية من الفيديوهات لناس بتحاول تلمس أو تحضن بعض في إحساس موحد وصلنا كلنا في الفترة دي، وكلنا حسينا بيه في نفس الوقت، وهو الشحتفة على أي  نوع من التواصل المتاح بين البشر.  بس دا بالنسبالي غريب وموتر وحزين.

بداية إحساسي بهستيريا اللي بيحصل  كان في يوم غريب،  قررت أنا وصديق نتقابل واحنا لسه في بدايات مراحل استيعاب اللي بيحصل حوالينا. ويومها طلع قرار إن الحظر حيحصل، واحنا متعاملين إن اللي بيحصل دا بعيد عنا. بس طول الطريق المحلات حوالينا بتقفل. نزلنا نتمشى وبنحاول نتعامل عادي، في حين إن فيه مشهد “دارك كوميدي” حوالينا لشارع فاضي ومحلات قفلت وبندور علي مكان فاتح نشرب قهوة، كأننا بنحاول نسكور بالظبط! احنا الاتنين جوانا إحساس لعبكه، بس بنحاول نغطيه بالسخرية كالعادة. 

محادثات عشوائية بيني وبين صديقة كل فترة، بتبتدي بـ “إيه اللي بيحصل حوالينا؟ إحنا عايزين حد كبير يفهمنا كدة بعد إذنكم.” مكناش عارفين ساعتها إن ده حيبقى الوضع الطبيعي خلاص. 

“THE NEW NORMAL”

مرة تانية  نزلت أتمشى وأشتري حاجات من السوبر ماركت بعد فترة من العزلة. توقعي ساعتها من نفسي إني مهيأة للي بيحصل. لكن دا كان مشهد دستوبيا بكل تفاصيله؛ شكلنا كلنا جوة مكان لابسين ماسكات، وماليين عربياتنا أكل، وبنحاول منتعاملش مع أي حد. فضل حاجة برضه عقلي مش قادر يفسرها:

 هنقيس حرارتك… هتدخل… هتسيب مسافة… هتركز مع الناس… هتبعد عنهم… متلمسش حاجة… متلمسش حد… ركز ركز…  كلمات بتتكرر بصوت عالي جوة دماغي 

كلم ناس أنت مش لوحدك… فيه دوشه أعم… اعمل حاجات مفيدة زي اللي حواليك… حس بالانتماء … 

لا مش نافع….  جرب تاني انزل بس ركز هتسيب مسافة… هتبعد… متقربش 

 ونعيد ونعيد ونعيد من تاني  

 دماغي عطلانة ولسة بتحاول تترجم

 بس برضه  هتسيب مسافة… هتركز مع الناس… هتبعد عنهم… متلمسش حاجة… متلمسش ح… ركز ركز… متمشيش قريب من حد

Share Button

١. العالم برة حدود سريري 

‏  ‎لما نزلت برة حدود أوضتي وشفت الشارع، حسيت إن العالم حواليا بيتغير. ابتديت ألعب لعبة الفيلم علشان أقدر أتأقلم؛  كأني بتفرج على الأحداث بس هي مش هتأثر عليّا بشكل مباشر. وكانت لعبة لطيفة في الأول لأن الأحداث سريعة جدا. بس دا فيلم، وهيخلص لأن الأفلام بتخلص. وابتديت أحكي مع صحابي عن الموضوع كأني مش جزء منه، وإنه بعيد. وأقعد بالساعات أتريق وأهرتل نظريات مؤامرة لأن في دماغي دا فيلم، ولازم يعني أكيد يحصل بلوت تويست!‏ ‎

‏‎دايما بحاول أهرب من الهدوء والسكوت وبدور على الزحمة والجري. بس دلوقتي كله وقف، والدوشه هديت، لكن الدوشة اللي جوايا صوتها عالي… أعلى من أي حاجة. حاولت أعلّي الدوشة اللي برة، بس الدوشة اللي جوايا بتسيطر.

THE CLUTTER IS TAKING OVER 

‎ساعات بسرح وفكرة إن دا أكيد فيلم تخبط جوا دماغي تاني، والأحداث تقول لها:

 “ناس مش فاهمة وناس بتجري، مشهد فيه كلنا بُعاد عن بعد، وبنحاول نلمس أي حد لأن التواصل البشري رفاهية منقدرش عليها،  ومخاطرة احنا مش قدها.”

 Human contact is a luxury/risk we cannot afford 

مشهد أسرع لأرقام بتزيد، بس لسه انا في فيلم، والفيلم بيخلص وأنا بعيدة.

مشهد تاني موازي لشخص بيحضن حد، وقد إيه دا فعل عادي جدا ومش المفروض اركز معاه كدة. بس دلوقتي ليه نشوة لذيذة علشان احنا بتنمرد علي الكورونا. أنت عارف إنه فعل غلط، وبيخلص على طول بقلق وتوتر. ومشهد الحضن ده لوحده والتوتر اللي بيجي بعده  بيفكرني بـ “اللي عامل عملة”… زي أهلي لما يحذروني من حاجة وأنا صغيرة، بس أقرر أعملها وأحس بنشوة لذيذة، بس بعدين بعيش بإحساس اللي عامل عملة.        

ذروة الأحداث هي إحساسك إنك معندكش أي سيطرة على أي حاجة بتحصل حواليك، إدراك قد ايه انت هش! 

التغيير اللي بيحصل في العالم برة أوضتي ده بيقربني خطوة كل شوية من مقابلة أسوأ أعدائي اللي كنت بتفاداه من زمان، وهو مدفون بس الكورونا طلعته.

الدوشه اللي جوايا بتزيد، وحتى الدوشة اللي برة مش موقفها خلاص… لازم أفضل أقنع نفسي إنه فيلم.

‏A movie about an anxious claustrophobic person stuck in a limbo while the world is on a pause. 

Share Button

دعوة لتسييس السياسي

 

 

نص مُجهل

قبل فترة قصيرة، استمعت إلى تسجيل لفتاة بحرانية تحكي عن تعرضها للاغتصاب، واكتشفت بعدها أن اسمها زهرة الشيخ. ردود الأفعال تراوحت بين من عبر عن مساندته ودعمه لها، من شكّك في مصداقيتها وقام بلومها على ما تعرضت له، ومن اكتفي بالصمت. كم شعرت حينها بالخذلان والخيبة والوحدة. كان من الممكن أن أكون في محلها بسهولة. من الممكن أن أكون في محلها في المستقبل، ولن يكون هناك من ألجأ له. زهرة استحقت حينها وتستحق اليوم أكثر بكثير منا جميعًا. خذلناها جميعًا. 

لا أكتب هذا المقال لتحليل حراكاتنا المقاوِمة بمحاسنها ومساوئها، وإنما أكتبه لمجرّد التعبير عن خيبة ظنّي فينا، نحن من ندّعي معاداتنا ومحاربتنا للظلم والاستبداد والأبوية. أحاول أن أقوم بذلك بشكل نقدي، وذلك ليس تقليلا من أشكال مقاومتنا الحالية أو تفنيدا لشرعية أي حراك يحاول مقاومة الظلم والاستبداد، وإنما محاولة لممارسة المحاسبة الذاتية ودعوة للتفكير معا.

ما تعلمته من ردات الفعل تجاه زهرة هو أننا لا نمانع أن نمحي نضال نسائنا من مخيلتنا الاجتماعية، بكل أريحية وبكل سهولة. زهرة الشيخ، لِمَن نَسِيَ منّا أو تناسى من تكون، شاركت في نضالنا من أجل بحرين أفضل. تعرضت لعدة اعتقالات بسبب نشاطها السياسي في 2012، 2013، 2014، وحتى 2018. قضت شهورا من حياتها في السجن، بعضها مع ابنها الذي لم يتجاوز الستة شهور حينها. اعتقل زوجها الذي لا يزال في السجن، فهو محكوم لمدة 15 سنة كاملة. اضطرت للجوء إلى بريطانيا ولا زالت هناك. هل نسينا هذا كله؟

في التسجيل الصوتي لزهرة، روت عن تعرضها للاغتصاب من قبل شاب بحراني اسمه أيمن الغسرة، حين كانت في زيارة دينية للعراق. يأتي هذا التسجيل في سياق قيام عدد من النساء البحرينيات بالتحدث عبر تويتر عن تجاربهن المختلفة مع الاعتداءات الجنسية، ومن ثم مواجهتهن لردات فعل مختلفة قد تكون داعمة وقد تكون عنيفة وتوجه اللوم للضحية. إحدى هؤلاء النساء كانت زينب (أو آنيا)، وهي ناشطة نسوية تويترية بحرينية، تحدثت عن تعرضها للاعتداء الجنسي من قبل إخوتها. تضامن معها الكثيرون وعبروا عن دعمهم وتصديقهم لها، وقامت زينب بشكر من دعمها وعبرت عن أسفها لكل امرأة تعرضت أو تتعرض لأمر مماثل. وأدّى هذا إلى انتشار الهاشتاق (#إلغاء_المادة_353) في الفضاء التويتري البحريني، وهي مادة في قانون العقوبات البحريني تعفي المغتصب من عقوبته إذا تزوّج من ضحيته. وقامت جمعية الشباب الديمقراطي البحريني بحلقة حوارية عن الموضوع عبر قناتها في اليوتيوب. في الحديث عن هذه المادة تحميلٌ للدولة جزءًا من المسؤولية، وعدم حصر هذه المسؤولية في المجتمع أو حتى في المغتصب لوحده. قد تكون هذه لحظة إيجابية، فهي محاولة لمقاومة عنف المجتمع والدولة معًا دون الفصل بينهما، وهي فعل مقاوم يمكننا البناء عليه.

ولكن، لماذا غاب هذا الدعم عندما تحدثت زهرة عمّا تعرضت له من اغتصاب؟ لماذا الصمت أو التشكيك؟ ولماذا لم نعُد نرى دور الدولة ومسؤوليتها في هذه الحالة؟ ما الذي اختلف؟ هل كان مزعجًا بالنسبة لبعض النسويات كون زهرة مناضلة ومعتقلة سابقة وزوجة معتقل؟ هل كان مزعجًا بالنسبة لبعض المعارضين للنظام كون مغتصب زهرة شاب بحراني وليس رجل الشرطة؟

أعتقد بأن جزءًا من المشكلة هو أن الكثير من محاولاتنا لمقاومة عنف المجتمع والدولة هي محاولات منفصلة، تركّز إمّا على نقد المجتمع أو الدولة، وتتعامل معهما ككيانان منفصلان، دون أن تحاول أن تكشف عن الطرق المختلفة التي يستخدمانها ليساعد كل منهما الآخر على تعنيفنا. يبدو لي أن الحراك النسوي البحريني التويتري، في شكله الحالي السائد، يركز على مقاومة عنف المجتمع دون الدولة، بينما تقوم المعارضة السياسية، بشكلها السائد، بالتركيز على مقاومة عنف الدولة دون المجتمع. يبدو لي أنه لا يوجد لدينا حراك يقاوم عنف الدولة والمجتمع دون فصل، على الأقل بشكل سائد ومنتشر ومستمر. 

حسب فهمي للحراك النسوي في البحرين في شكله السائد، فهو لا يرى أي مشكلة في تركيزه على مقاومة الأبوية دون مقاومة النظام. يستخدم خوفه من عنف الدولة كعذر. قد يؤدي خوفنا إلى صمتنا أحيانًا، ولكنّي لا أعلم إن كان خوفنا يؤدي إلى استخدامنا لمنطق الدولة لتبرير عنفها تجاهنا. لا أعتقد أن هذا الخوف هو السبب الوحيد. أعتقد أن هذا الحراك النسوي السائد لا يرى الدولة مسؤولة أصلًا عن تعنيفنا كنساء، ولا يرى الضرر في إخلاء الدولة من هذه المسؤولية، ولا يرى أن مقاومتنا للأبوية تحتم علينا أن نقاوم النظام أيضًا. حين يحاول البعض نقد أي من النسويات على مواقفهنّ من الدولة، قد يتخذن وضعية دفاعية، بدل مراجعة أنفسهن وتحمّل المسؤولية، وقد يتعذّر البعض منهن لكونهن يقمن بعمل المستطاع أو الممكن.

هنا، أطرح بعض التساؤلات للنسويات: 

لماذا لا تردن أن تحاسبكن نساء مجتمعكن؟ لماذا تقمن بالعمل الذي تقمن به ومن أجل من؟ ولماذا لا يزعجكن كون عملكن لا يحاسب كل من كان مسؤولا عن تعنيفنا لجندرنا وجنسانيتنا؟ وأخيرًا، ألا يجب أن يقوم نضالنا بتوسيع ما هو ممكن بدل الرضوخ للممكن الحالي؟

أما بالنسبة لمعارضتنا للدولة، في الشكل السائد لهذه المعارضة، فهي تعتقد بمحاسبة الدولة دون المجتمع على العنف الذي نتعرض له، وهي لا ترى أي ضرر في حصر نضالها ضد الدولة فقط، ولا ترى أي ضرر في النظام الأبوي الذي يحكم مجتمعنا. يتخذ جزء كبير من العمل المعارِض في البحرين شكل العمل الحقوقي، وهو لم يبدأ في عام 2011، ولكنه انتشر بشكل كبير منذ ذلك الوقت، قد يكون ذلك بسبب التضييقات على الأشكال الأخرى من العمل السياسي، وقد يكون كمحاولة لتوثيق الانتهاكات التي اشتدت حينها. رغم أن الكثير ممن اشتغل ويشتغل في هذا المجال هم من النساء، كزينب الخواجة، مريم الخواجة، ابتسام الصايغ، نضال السلمان، وغيرهن ممن يعملن في العلن أو خلف الكواليس. رغم ذلك، أتساءل، مَن يسيطر على الكثير من قرارات واتجاهات هذا العمل الحقوقي بشكل خاص والعمل السياسي المعارِض بشكل عام.  في الفيلم الوثائقي الذي تحدثت فيه نجاح يوسف عن تجربتها في السجن وتعرضها للاغتصاب من قِبَل رجال الشرطة، يقوم رجل حقوقي بحراني بالتحدث معها على الهاتف لتوثيق هذا الانتهاك (25:10 – 26:30). قد تكون مجرد إعادة تمثيل لما حدث، ولكن حتى في إعادة التمثيل هذه، أتساءل إن كانت نجاح مرتاحة في سرد هذه التفاصيل لرجل، وإن كان حقوقيًّا، وأتساءل إن كان ذلك يُصعّب على الناجيات الحديث عن تجاربهنّ. أما زهرة الشيخ، فحين تحدثت عن تعرضها للاغتصاب في التسجيل الصوتي الذي انتشر على تويتر، فقد قالت بأنه حين لجأت لبريطانيا، وحين طلبت المساعدة من المناضلين السياسيين والحقوقيين الموجودين هناك، لم يساعدها أيّ منهم بالشكل الكافي، رغم أنهم يكتبون البيانات عن انتهاكات الدولة تجاهها. ونتيجة لذلك، اضطرت زهرة للبقاء في الشارع مع ابنها الصغير.

هنا، أود طرح هذا التساؤل للمعارضة والحقوقيين منهم بالذات: من أجل من تقومون بعملكم الحقوقي؟ لماذا تكتبون البيانات عنّا إن كنتم ستردوننا حين نلجأ لكم للمساعدة؟ 

هذه التساؤلات ليست هجوما على أحد، ولكنها دعوة للتفكير والمحاسبة الذاتية. إن كنّا جميعا نريد أن نعمل من أجل بحرين أفضل، ألا يجب علينا أن نحاسب كل من كان مسؤولا عن الوضع القائم؟ لماذا لا نمارس هذه المحاسبة عندما تتحدث امرأة عن تعرضها للاغتصاب؟ لماذا لا نزال نوجه اللوم لها؟ لماذا لا ندعم النساء إلا حينما يكون الأمر سهلا؟ لماذا لا ندعمهن إلا بشروط؟ أندعمهن فقط حين يكون المعتدي شخص شرير جاء من الفضاء؟ 

لا نود محاسبة أنفسنا، ونتحاشى النظر أو الحديث عن الاغتصاب حين يجب علينا الاعتراف بالذنب والمساهمة في ثقافة الاغتصاب هذه. الاغتصاب، كما أفهمه، ليس حدثًا عابرًا خارجًا عن سياقه. المسؤول عنه ليس المغتصِب لوحده. اعترافنا بذلك لا يعفي المغتصب من مسؤوليته، وإنما يحمّل كل من كان مسؤولًا مسؤوليته أيضًا، وذلك يتضمن كل من ساهم في خلق بيئة تجعل من وجود الاغتصاب ممكنًا. فالدولة مسؤولة، وكذلك المجتمع.

الدولة هذه هي التي تشرع الاغتصاب في المادة 353 من قانون عقوباتها. وهي نفسها التي تعتدي شرطتها علينا وعلى أحبابنا، في الشارع والبيت ومركز الشرطة والسجن، اعتداءً لفظيا وجسديا وجنسيا، وتعاملنا بشكلٍ مهينٍ لكرامتنا ومُمحٍ لإنسانيتنا. والدولة هي التي تحكم على أحبابنا بالإبعاد عنا بالسجن لسنوات طويلة مما يجعلنا في موقف صعب دون أحد نلجأ له ليحمينا. ومن ثم تجبرنا على الهرب واللجوء بعيدًا أكثر عن أحبابنا بعد سنوات من تعرضنا لعنفها ومخافة استمرار ذلك العنف.

 

والمجتمع هذا هو الذي لا يعترف بنضالنا من أجله كنساء، ليس بالشكل الكافي، على الأقل. هو الذي يشعرنا بالعار وبالذنب حين يتم الاعتداء علينا من قبل أي كان، رجل الشرطة أو أخينا أو أخو الشهيد، لا يهم، فنحن دائما من لم نأخذ احتياطاتنا ونحن الملامين أولا وأخيرا. هذا المجتمع هو الذي يعتقد أن لا ملكة لنا على أجسادنا كنساء، وأن له الحق في التحكم في طريقة لبسنا، ويعتقد أن طريقة لبسنا مبررٌ للاعتداء الجنسي علينا، ويعتقد أن ممارساتنا الجنسية التي نمارسها بحريتنا هي مبررٌ أيضًا للاعتداء علينا. هذا المجتمع هو الذي لا يتردد في شيطنتنا حينما لا نعيش حياتنا حسب القواعد والمعايير التي يضعها لنا. هذا المجتمع الذي لا يرى أي مشكلة في استخدام صورنا كأداة لابتزازنا. والمجتمع هذا هو الذي يستخدم احتمالية كوننا مخبرات كعذر قبيح للتستر على اغتصابنا، حتى حين نكون لاجئات ومحكومات غيابيا وزوجات معتقلين. 

لا أتكلم عن المجتمع كأنّي خارجه. فأنا منه وفيه، وأنا مسؤولة أيضًا. كلنا مسؤولون وليس المغتصب مسؤولا لوحده، حتى وإن اختلفت درجات وأشكال هذه المسؤولية. 

أعتقد أننا نستحق حماية من عنف الدولة والمجتمع معًا، لا أحدهما دون الآخر، وأننا نحتاج فكرًا وحراكًا سياسيًّا يرى أهمية مقاومتهما معًا دون التغاضي عن أحدهما خوفًا من الآخر. هذا ما يمكن للنسوية المقاومة للنظام والأبوية أن تسمح لنا بالقيام به.

قد لا نستطيع إسقاط النظام ولا الأبوية اليوم، ولكننا نستطيع أن نقوم بالعمل الذي سيؤدي إلى ذلك غدًا، لا العمل الذي يعيد إنتاج هذه الأنظمة. نستطيع أن نقاوم هذه الأنظمة وأن نسرد هذه المقاومة لنتذكرها ونتعلم منها. كما نستطيع أن نحاسب أنفسنا بشكل دائم ونسمح لمن نقوم بعملنا من أجله أن يحاسبنا من أجل أن نقوم بعملٍ أفضل. ونستطيع أن نسيّس عملنا النسوي وأن نعترف بأن السياسة جزء أساسي من هذا العمل، وأن لا عمل نسوي ما لم يكن سياسيا، وأن أي عمل نسوي خالٍ من السياسة هو عمل مشوه وناقص، وقد يكون مضرّا أيضا لأنه لا يحاسب كل من كان مسؤولا عن تعنيفنا لجندرنا وجنسانيتنا. لا أعلم إن كانت تبدو هذه مهمّة صعبة أو كبيرة، ولكن ما قد يسهلّها هو معرفتنا بأننا لا نحتاج أن نبدأ من الصفر. لدينا تاريخ من النضال والحراك المناهض للدولة من ضمنه حراك نسائي، لدينا نساء قامت في الماضي وتقوم الآن بممارسات من أجل النجاة والمقاومة في حياتهنّ اليومية وفي دوائرهنّ الخاصة، ولدينا حاليّا حراك نسوي وحراك مناهض للنظام، كما أن لدينا حراكات نسوية ومقاوِمة في المنطقة والعالم كله، في الماضي والحاضر. يمكننا أن نبني على كل هذا.

Share Button

هكذا أفضل

كتابة: سوسن الشريف

وصلتني رسالة في صندوق بريد فيسبوك من سيدة رفضت أن تعلن عن اسمها، وحسابها على صفحتها الخاصة يحمل حروفًا مكتوبة بشكل غريب لا يشير إلى اسم واضح، ولا يوجد لها أي صور شخصية. لم يكن رفضها الإفصاح عن معلومات أكثر عنها غليظًا، بل كان أقرب للرجاء أو التمني، قائلة أن اسمها لن يفيد أو يضر، تطلب فقط أن نتحدث عبر الماسنجر. 

لم أرد على الرسالة لعدم وضوح أي شيء عن صاحبتها، فأرسلت إليّ رسالة محملة بضيق ونفاد صبر، طالبة مني أن أخبرها صراحة برفضي أو قبولي، فكل ما ترغب به التحدث مع أحد لا يعرفها. وحسابي ظهر أمامها ضمن قائمة الأصدقاء المقترحين، فشعرت بارتياح لمظهري ولما أنشره، فقد اعتدت نشر خواطر يومية عن الأمل وتأمل الحياة، وصور لمناظر طبيعية، وصور ألتقطها لكل ما حولي عندما أقوم بجولة في الشارع، سواء الحدائق أو الأماكن الأثرية التاريخية، أو الأماكن التي لا يزورها الكثيرون كالصحراء والواحات وسيوة، وأتجنب العنف أو المنشورات المزعجة. قلت لها إنني لا أمانع في سماعها، لكن حسابها مريب وغير مطمئن. 

اتفقت معي في الرأي وأقسمت أنها سيدة، وبدأت تكتب لتروي لي حكايتها…

المرض يسري في كل جزء بجسدي، حرارتي مرتفعة، وأشعر بالدوار والضعف. أكتب إليكِ ببطء بقدر ومضات لحظات الصحو التي تنتابني. أنا في أوائل الخمسينيات، أعيش بمفردي، أفراد أسرتي ما بين مسافر أو يعيش في مكانٍ آخر، الجميع منشغل بحاله وأولاده. حاولت الاتصال بهم؛ بدا البعض مشغولًا، والبعض لا يجيب على الهاتف. أحاول شغل وقتي بكتابة أو إعادة نشر منشورات على الفيسبوك. أراهم موجودون، لكنهم لا يجيبون. قالوا لي مرارًا إنهم يطمئنون عليّ من منشوراتي.

ثم قالت، سأعود بعد قليل انتظريني من فضلك… عادت معتذرة تقول “عفوًا وصلات السعال لا تنتهي، مع الحرارة، أشعر أن روحي تنسحب مني ببطء، كم هذا مؤلم، مع الصداع، اااه لا أتحمل…” 

صرعني القلق عليها، سألتها عن حالتها بالتحديد، قرأت ما بين حروفي، وردت بكلمة واحدة “نعم”، هو ما تفكرين فيه. أخبرتها أن عليها التوجه إلى أقرب مستشفى أو تطلب الإسعاف أو رقم الطوارئ. كانت رسائلي تصل إليها بطيئة من شدة توتري، الحروف تتلعثم، لتصبح كلمات غير مفهومة، وأنا أسدي لها كل النصائح، وأسألها ثانية عن أهلها.

قاطعتني برسائل صوتية ضعيفة لأنها لم تعد قادرة على الكتابة، وترى كل مقترحاتي ساذجة، فقد أوضحت موقف أهلها المطمئن لمنشورات الفيسبوك. كانت تضغط على الحروف بوهن وهي تستمر في حكايتها وتقول “هكذا أفضل”، عشتُ أيام في حيرة وخوف لعدم قدرتي على طلب الإسعاف أو الطوارئ، بالتأكيد سأكون وحيدة، بجانب حزمة من المرضى لا يعرف عنهم أحد، غير معلوم مكانهم. وأنا بالفعل وحيدة ومريضة، أعيش في عزلة في منزلي، عزلة فرضتها عليّ ظروف الحياة وحيدة، وفي غنى عن المزيد منها.

طلبتُ منها الاطمئنان على احتياطاتها لعدم نقل العدوى، فقالت إنها ترتدي قفازًا كلما تعاملت مع عامل السوبر ماركت أو الصيدلية والبواب، لا يزورها أحد، ولم تعد قادرة على الخروج، ثم بدأ صوتها يتلاشى مع كثرة السعال وصعوبة التنفس. حاولتُ تهدئتها وقلت لها في محاولة يائسة أخيرة جاهدة لحثها على التفكير في احتمالات الشفاء، أن أملنا دائمًا كبير في رحمة الله بعباده. 

فردت علي ّبأن الله وحده رحيم، لكن عباده يحسبونها بالورقة والقلم، فالطب يرى أن أصحاب الأعمار الكبيرة الأكثر عرضة للموت، لا أعرف كيف سيتم تصنيفي! ففي العمل والزواج خرجت من حلبة السباق من زمن، وفي الشعور بالصحة والحيوية قبل الإصابة بالمرض. لم أشعر يومًا بفارق عمر حقيقي – بخلاف الأوراق الرسمية – عن فتاة في العشرينيات، لكن في وضعي الحالي! بالتأكيد سيكون إنقاذ من في العشرينات أفضل الفرص للنجاة. 

ريثما كنت أكتب لها الرد، فوجئت بوصول رسالة أخيرة “آسفة إني حملتك همي ومشاكلي، لكن كنت في حاجة للتحدث لأي أحد. شكرًا لاستماعك، خدي بالك من نفسك”.

قبل أن أجيب حظرتني على الفيسبوك والماسنجر. لا أعرف اسمها، ولا منطقة سكنها، أصحابها وصورها مختفية. حاولت أثناء الحديث البحث عن من علق أو أُعجب بمنشوراتها، لم أجد من يترك علامة أو أثر، وكأن مهمتها النشر، ومهمتهم المشاهدة في صمت. 

الصمت… ذلك الكفن الأخير للوحدة والمرض والعجز.

لا أعرف من منا يعاني العجز أكثر من الآخر! ها هي ألقت عليّ بصاعقة وتركتني ورحلت، ولا أعرف هل رحيلها سيكون فقط عن قائمة رسائلي، أم عن العالم، لا أعرف كيف أساعدها!

أو ربما ساعدتها في أنني استمعت إليها باهتمام، ربما لم تجدني عاجزة كما أجد نفسي لأنها وجدت كل ما تحتاج وتفتقد، وجدت من يستمع إليها ويهتم لأمرها ولو كان شخصًا غريبًا عنها، وربما يكون هذا جزء من علاجها. باتت عندها معرفة أكيدة أن هناك من سوف تستند إليه بكلماتها في أوقات الضعف، ستلغي الحظر، وتتحدث إلى من يجيب ويستمع، من سيكون قريب وبعيد بما يكفي بالنسبة إليها.

كثيرًا ما يكون الاستماع للآخر بإخلاص هو المساعدة الأكبر التي يحتاجها، والتي لا تُكلفنا الكثير من الوقت أو الجهد، فقط نؤكد له ونقول “أنا موجود وبجانبك وقتما تريد”.

Share Button

ما يدفعنا للحلم بالضي وقت العتمة

 

كتابة: أميرة موسى

* الرابع عشر من مارس 2020، الحكومة المصرية تفرض حظر التجول، ضمن خطتها لمواجهة فيروس كورونا (المسبب لمرض كوفيد 19)

مشهد نهار داخلي – الإسكندرية (حيث أعيش).


“هنرجع كلنا البيت النهارده” قرر أبي. بعدما أتى مع أمي وأختي – في زيارة لم يُبلغوني بها – قبل هذا التاريخ بأسبوع.

كانت مفردة  “كلنا” إشارة مقتضبة إلى أن عليّ الانصياع كجزء من هذا الكل.

سنعود بعد أسبوع.

كان وجود حرف “النون” كافٍ لأعرف أنني أُساق كنفرٍ من قطيع عائلة تحاول أن تبدو للعابرين كذلك، وأنه يسوق ذاته وأمي وأختي إلى حياتي، التي خرجوا منها ولم يخرجوا منذ خمس سنوات.

عزيزاتي،
هذا ليس درسا لشرح المعاني أو استيعاب كيف تؤدي اللغة دورا في السطو، لكن أسفل ذاك الحرف وتلك المفردة ترقد أصوات ودموع ودماء لمعارك لا يكفي معجم لشرحها. عادت أمي وأختي إلى بيت أبي. أما أنا فلم أعد إلى أي بيت، لا بيتي ولا بيته. علقت أجزائي على الأبواب. ولم أملك من القوة المادية ما يكفي للوقوف على أرض، أو العودة إلى بيت. بقيت بالأعلى أنتفض في مكاني دون أن يتهاوى جسدي، فقط روحي. لقنتنا الانتفاضات العامة والثورات الفردية في كل الدنيا، أن الرفض يلزمه عُدة وتجهيزات. لننشق ولا نمت، على الواحدة منا أن تملك ما يبقيها حية بكل ما تحمله الحياة من دروب، استوعبت الدرس وقبلتُ تعلمه. 

أواخر مايو 2020

مشهد ليل خارجي – المنيا


لا أتحدث إلى أي منهما، لا آكل في المنزل، فقط ألبي نداء الطبيعة وأفعل ما يشبه النوم أحيانا. انتهى الأسبوع، وزاد عليه عدد لم أعد أحصيه من الأسابيع. أيام كثيرة مضت وأنا أقضي بضع ساعات على سطح بيت صاحبتي “هاء”. في اللحظة الحالية، يبدو بالنسبة لي مثاليا أن أجلس إلى جانب تشابك أصابع “هاء” الكبيرة مع أصابع ابنة عمها الصغيرة. تلعبان وتضحكان، بينما أحدق في السماء التي تحمل نجوما لا يتسنى لي رؤيتها في المدن الكبرى. كما لا يتسنى لي الحظو بصمتٍ يغلفه لطف صوتٍ غير مزعج، كما هو الحال بالنسبة لصرخات العراك حين ينشب بين أناس في الشارع، أو صوت سيارات يصدح الكاسيت فيها بأغاني “المهرجانات”. كان صوت اللعب يوفر لي مؤنسا، دون أن أنبس أنا بكلمة واحدة. بالرغم من أني كثيرا ما أتحدث إلى الآخرين، مثل “هاء” وغيرها، بحيوية مرئية لهم لا لي. أقول كما لو أني لا أخفي شيئا، أشارك قصصا ومواقف كما لو أني أفرغ جعبتي من الحكي. أنفتحُ كما لو أني مطمئنة فعلا. يحتاج اللقاء إلى قدر من الذكاء الإنساني، لدفع الملل. يلزم الصُحبة حديثا متقدا بالحماسة والابتسامات، شيء يشبه الألق ولا يكونه في الحقيقة بحالتي الحالية. يكون نصفي الثاني كما يحتاج اللقاء ويلزمهم. ويكون نصفي الأول كما تتراءى لي حقيقة كلي؛ ساكتة. بين اثنتيهم مراضاة، أحاول الإمساك بشيء منها، ربما تهدأ الروح، وربما تقاوم أعاصير يعززها كل فعل يذكرني أني غريبة هنا.  

أعيش الآن مرحلة ما قبل المُضي. ولت أزمنة الأمل، الذي كان يدفعني لضخ الماء في الأرض التي ظننت أنها تجمعني بهم طوال عقدين من الزمن. في الأول لم أدرك أنني أسقي أرضا بور. في الثاني رفضت الإدراك، لأن الرغبة في أن نكون عائلة حقيقية كانت أكبر من كل الأذى، ولأن الحب بيننا كان مشوها والعلاقة مربكة على نحوٍ أعقد من قدرتي على فك طلاسم هذا النوع من الحب، واستبصار سم تجرعناه سويا.

أراني أتقدم داخل عقلي، في حين يرونني أتراجع خارج أعينهم. قلبي يستوحش المحيط ويفتقد الوجود، يوم كان بالأرض مكان ما يدعي بيتي. سقيته بعشرة أعوام من عمري، لينمو وأنمو معه. اليوم أصبح ماضيا، الوصول إليه لم يعد يستغرق نصف نهار، إنما يلزمه نصف عمر آخر. لست متأكدة من أني أملك نصف عمر حتى  أدفعه، ولست واثقة من جدوى الدفع المتواصل. الطرقات أطول، والخطوات أثقل، لكني أمشي… أهرول… أسقط… وأفعل كل ما يجدر بإنسان حقيقي أن يفعل.

منتصف يوليو 

مشهد نهار داخلي – بيته بالمنيا

هل تذكرنَ محادثتنا عن مشاعرنا تجاه الشجارات التي نخوضها مع عوائلنا، اليوم وجدت في إحدى الملفات شيئا دونته من وحي جِلسة جمعتنا في ديسمبر من العام الماضي، كتبت فيها: 

  ينساب صوت الذاكرة في عقلي باستمرار كما لو أنه خلفية موسيقى مارشال جنائزي. دون انقطاع، أفكر في سيل الأوامر التي لا أجيد التعامل معها بطريقة أخرى سوى الرفض العلني. رفض أوامرهم يسلمني إلى رفضهم لشخصي ككل. يعيد كلا منا إنتاج الرفض في صور لا يجمع بينها سواه، ويفرق بينها كل ما دونه من معايير وأنماط وقيم. 

أستشعر في كل لحظة استياء والدي مما أعلنه، واستياء أمي مما أخفيه. أخفيه ضجرا و إحباطا غالبا، وأحيانا خوفا من أن يؤدي البوح بنا إلى مسارات لا تتقاطع أبدًا، ولو حتى في نقطة التقاء لحظية كهدنة أو صالة مطار يلتقي فيها المشتتون… يتعانقون، تجمعهم أرض واحدة، يتنفسون نفس الهواء، ويجلسون على مقاعد الطاولة الدائرية نفسها. تهدأ حدة غربتهم في هذه اللحظات قبل أن يعودوا لشتاتهم مرة أخرى. خوفي من فقد نقطة التقاء لحظية يطغى الآن على رغبتي في أن يكون كلٌ منا نفسه تماما. 

لم أعد أملي أُذن أمي بالحكايات. لم أعد أشاركها الكثير من الأشياء لأن ما يروقها سماعه تغير، ولأن هذا التغيير غير مرحب به. علمني تنكيلهم بي في تجارب سابقة أن وضوحي خطأ يستحق عقابات لا تتسق مع بساطة غايتي من الوضوح، ومع الجهد الذي عليّ بذله لنيل أي من الغايات هذه. قولا واحدا يجمعون سويا “حديثي مرفوض”، الغريب أن صمتي أيضا مرفوض.
صرتُ كالراقصين على حبل رفيع، علي أن أؤدي رقصة دون أن أقطع الحبل، دون أن أَسقط أو أُسقِط أي مما حملت أوزاره وإن لم أرغب به. لابد أن يحدث ذلك دون أن أدعي أو أعوي بصوتِ عال أنني متعبة من القيام بكل هذه الأشياء المتناقضة معًا. في مكان ما عميق، ترقد رغبة في أن أطرح كل هذا أرضًا، وأطلق قدماي للريح في الاتجاه المعاكس لكل ما سبق”. 

 قرأت هذا في الوقت الذي أستعدُ فيه اليوم للانطلاق بعيدا. في الوقت الذي تُصَم أوامر أبي إلى هذا وتعليقات أمي على ذاك، أتخيل نفسي في مكان ثان. أفعل أشياء أحبها. يحيطني تفاهم ومحبة آخرين. بالرغم من غياب شواهد قدرتي على القيام بذلك، لكني أترقب. تذكرني هذه الحالة بإهداء دونته جميلة في مقدمة كتاب أهدتني إياه في بداية تعارفنا، وصفتني فيه بالحالمة. تعرفنَ أني لم أعد حالمة أبدا، لكن شعوري بأن آلية توقع الأسوء فقدت فاعليتها في جعلي أتنازل، فالواقع دائما يبرع في حمل الأسوأ والأسوأ، ولأني أتخيل أن فقداني للأمل وسقوطي في وحل الواقعية سيأتي على ما بقي من رغبتي في الحياة. شيئ آخر يدعوني للحِلم في هذه اللحظة، هو فشل محاولاتي للتعايش مع ما أرفضه منهم، وسعيي لخلق أرضية ما، من الأفعال الأولية كالطعام أو الإنصات إلى صوت غنوة نطرب لها معا. لأن ما ينقصهم ليس معرفة المحبوب والمكروه، أو ما يؤذي علاقتنا وما ينفعها، لكن الرغبة في فعل أدنى مجهود لتحقيق أي مما سبق. غالبا يدفعنا الفشل للإحباط، لكنه أحيانا يزج بنا نحو الحلم والرغبة في خلاص قريب. تتضح تفاصيل الحلم وتزداد رغبة الخلاص، كلما ارتفع صوت الأوامر واشتدت حِدة التعليقات ونمى الخراب، بحيث لم تعد مساحيق التجميل مجدية، أو إيهام النفس بحشو الهوة بأكلة أو غنوة.

أعتذر عن طول الرسالة، أعرف أن رسالة من هذا النوع لا تتماشى مع سرعة حقبتنا، لكن ما شجعني على إرسالها بهذا الشكل ثلاثة أشياء: أولا، معرفتي بأن ثلاثتنا ننتمي إلى التأني والاستفاضة وأشياء لا تشبعها رسائل قصيرة. ثانيا، أمنيتنا بتبادل الجوابات، لنعتبر نصوصنا كذلك. ثالثا، محاولتي مشاركتكن أحوالي في أوقات مختلفة بعد فترة صمت أطول من رسالتي. أتوق إلى أن أسمع منكما أيضا.

حُضني وقبلاتي

ميام 

Share Button