بيننا… ضدنا تأويل تأمّلي في (إحدى وعشرين قصيدة حب) لأدريان ريتش

 

بيننا… ضدنا  PDF 

كتابة: مي عبد الحفيظ 

ترجمة: سماح جعفر

مي عبد الحفيظ نسوية أفريقية، شغوفة بالطعام الحار والقطط، وتكره كتابة السير الذاتية. 

 

لم يتخيَّلنا أحد. أردنا أن نحيا كالأشجار،

جمّيز مضطرم عبر الهواء الكبريتي،

مُعَرّق بالنُدوب، لم يزل يزهر بوفرة،

بشَغف حيوانِي متجذر في المدينة.

 كل قصة حب كويرية منكوبة فطريًا؛ هذا ما تعلمناه. كل حياة كويرية منكوبة، مقدر لها أن تبقى في الظلال حيث لا شيء ينمو، لتختفي في النهاية دون ترك أي أثر من تاريخنا، قريباتنا الكويريات، شيخاتنا، وقصص عن حيوات عيشت بتعقيدات متعددة.

ومثل أدريان وشريكتها، كانت نهاية الآن والهنا تلاحقنا بينما نسير في شوارع القاهرة القاتمة ليلًا. جسدان صغيران غِرّان يُناوران القمامة، المَحذُور والرصيف المتباين في مدينة نكرهها ونحبها. حبيبتان غرّتان تحجبان أُنوثتهما بـ “هوديز” كبير الحجم. حوت حقيبتي كتاب أدريان ريتش، “حلم لغة مشتركة”. لقد تعرفت على أدريان عبر مقالاتها ككاتبة نسوية كويرية، الأمر الذي قادني إلى شعرها. كنت مَأخُوذة، والتقمتُ كل كلمة كما لو أنها لفظت لأجلي ومني عبر الزمان والمكان. أحد الأعمال بين صفحات الكتاب هي “إحدى وعشرون قصيدة حب” – مجموعة من السوناتات تلت علاقة كتلك التي وجدت نفسي فيها. خَببنا شوارع القاهرة ليلًا، بينما نتحدث عن حب مشترك للأدب، ونتجرأ لأول مرة في حياتنا الغرّة على الحلم بمستقبل أفضل هنا، وليس في مكان آخر.

العالم يتغير، يتحول، وربما – ربما – يمكننا آنَئِذٍ تخيل حب كحبنا يتحرك في الشمس. 

أستيقظ في سريرك. وأعلم أنني كنت أحلم.

في وقت سابق، فصلتنا آلة التنبيه عن بعضنا،

كنتِ في مكتبك لساعات. أعرف ما حلمت به:

أتت صديقتنا الشاعرة إلى غرفتي

حيث كنت أكتب لعدة أيام،

مسودات، ورق كربون، قصائد تتناثر في كل مكان،

أردت أن أريها قصيدة

قصيدة حياتي. لكني ترددت،

استيقظت. كنتِ تقبلين شعري

لتُيقظينني. حلمت أنكِ كنت قصيدة،

أقول، قصيدة أردت أن أريها لشخص ما …

 اللاكويريون يحبون أن يسألوا، “متى عرفتي؟” كما لو أن “المعرفة” تعني أن نسمح لأنفسنا بتخيل حياة ومستقبل ومحبة وتقبل. أن نعرف يستدعي أن نتمكن من تخيل تلك الجنسانية، ذاك الشعور، وهذه الرغبة في مدينة لا تسمح بذلك، ولو بالكلمات حتى.

لم أجرؤ على الحلم بشعر يتحدث عنا حتى – ليس كفنتازية، ليس كنص فرعي؛ شعر دُمج في حياتنا اليومية العادية. غرف فوضوية ومنبهات تذكرنا بلَمْلَمة أنفسنا داخل الخزانة مرة أخرى.

مسلحة بكلمات جديدة، تغير هدفي من مجرد الوجود أو يا دُوب النجاة، إلى مُلاحقة درب التاريخ للبحث عن جِذرنا. بحثت بين سطور الكتب المكتوبة بلغتي عن تجارب مماثلة، محجمة عن افتراض أنهن لم تكن موجودات قبلنا، وأنهن لم تتركن تاريخًا. نحتاج إلى دليل على مقاومة سابقة لتخيل مستقبل لأِجلنا نحن الكويريات الوَحدانِيّات هناك.

لم يكن الشعر جزءًا أساسيًا من مكتبتي أبدًا. كانت مكتبتي في الغالب تخييلًا، حيث أكون الحيوات العدة وبطلات عقل الكاتب، واللا تخيل، حيث ستكون حيواتنا نظريات صِرفة. لَمّا قرأت أدريان، أدركت أنني أحب الشعر حقًا، لكنني شعرت بأنه اِخْتَانني. حتى عندما أصادف قصيدة تصور فيها رغبات ومحبة النساء الكويريات، يتم إخفاءهن بصورة مجازية أو نص فرعي غامض، أو يُنظر إليهن عبر عيون الرجال الذين يتجسسون على حيواتنا من خلال ثقوب المفاتيح المتلصصة. 

افعلي كل ما تستطيعين للنجاة.

أتعرفين، أظن أن الرجال يحبون الحروب …

غضبي المُستَعصِي، وجروحي التي لا تندمل

تنفتح أكثر بالدموع، أبكي عاجزة،

وما زالوا يسيطرون على العالم، وأنتِ لست بين ذراعي. 

رُويدًا، صارت تمشيتنا اليومية الليلية أقصر. كانت أقدامنا مرهقة بالفعل، احتجاجًا على مجهود المسيرات النهارية الطويلة التي يقودها أملنا الجماعي، غضبنا، حسرتنا. تُرك كتاب القصائد على السرير الذي تقاسمناه. لم يكن بإمكاني المجازفة بفقدانه خلال الوقفات الطويلة إلى جانب النساء والرجال المتطوعين للالتقاء والتصدي للاعتداءات الجنسية الجماعية – ردًا على الصدمة الأولية لاكتشاف أن النساء يتعرضن للاغتصاب والاعتداء في مكان يطالب بالحرية.

تعرضت النساء ضِمْن الحشود للغدر بسبب أنوثتهن المزعومة على أيدي الغوغاء، وفرض الواقع الذي أُبْعِد ذات مرة على أمل بسيط بأن المساواة تنطبق بطريقة ما على أنوثتنا، التي تدعو لأن تشملنا الحرية والأمن. زارتني أدريان مِرارًا أثناء صد تلك الهجمات الوحشية، ذكرتني بجمال المحبة حتى النداء التالي للمساعدة، بينما أتجاهل أصابع الدُخَلاء التي تتسلل إلى أكثر الأماكن حميمية لتمحو لمسة الوَجْد المحبة من الليلة السابقة.

غطيت جسد الفتاة التي تصرخ. لا أذكر شيئًا سوى صراخها والاختناق. حاولت تغطيتها دون أن ألمسها. لو أنها عرفت من أكون حقًا، لو رأت في تلك الأيدي التي طوقتها عديد النساء الأخريات اللائي طوقنني، فهل ستبتعد بنفور واِرتياع؟ هل تبرئني أنوثتنا المشتركة في عينيها؟ تركت هذه الأسئلة دون إجابة.

تمنيت أن تكون أدريان معي حتى أتمكن من سؤالها، “كيف تمكنت من النجاة طوال تلك السنوات دون أن تُستهلك بالمرارة؟” لكنها تركتنا في عام 2012. تمنيت لو أنيّ في مكان آخر، في سريرنا، أقرأ، أهرب من هذا الواقع. أردت بيتي. 

قرون من الكتب غير المكتوبة تتكوم خلف هذه الرفوف.

ولا يزال يتعين علينا التحديق في غياب

رجال لا يريدون، نساء لا يستطعن

التحدث لحياتنا – تلك الحفرة غير المنقّبة التي

تسمى الحضارة، فعل الترجمة هذا، نصف العالم هذا.

كانت المكتبة بيتي منذ أن كنت في التاسعة من عمري، أقرأ كلمات أوليفر تويست وهو يطلب المزيد من الحساء. لقد تعلمت أن أطلب أكثر من الكلمات وأقل من الحياة.

كانت الكلمات درعي ضد الراشدين الذين حاولوا قولبتي داخل صندوق ما يجب أن تكون عليه “الفتاة الجيدة”. الفتاة الجيدة لا تقرأ كثيرًا، ربما تقرأ ما يكفي لتلقي تعليم يمكّنها من امتهان وظيفة، لكن بالتأكيد ليس لحد يقودها للتشكيك في العالم الذي تعيش فيه. أو كما اعتادت والدتي أن تقول “الانغماس في الكلمات والأدب سيدمركِ!”

لا تملك النساء الكويريات رفاهية الجهل؛ لا يمكننا المخاطرة براحة تجاهل تعقيدات تصادم الجنس مع الرغبة. يحب البعض منا التظاهر بأننا سنكون بأمان لو لم ننظر بازدراء إلى الخطر الذي يحدق بنا، وينتظر ابتلاعنا مرة أخرى نحو النسيان. تترجم كلمات مثل “القمع” إلى سحب اليد بسرعة قبل لمس يد أخرى في العلن. خِلال ذلك، يتم اختيار خطاب التحرير بأكمله في صورة احتفال سنوي، وتصبح أقواس قزح رمزًا سلعيًا فقد معناه، تلوح به الشركات في شوارع نيويورك ويُقاضى بسببه في شوارع القاهرة. إنه يحوي كل لون يعكس الأجساد البيضاء، تاركًا الأسود والبني – المَنبُوذ والمهمل – ليشاهد الموكب يمر عبره ويدوس بأقدامه الراقصة على أجسادهم المظلومة، المعذبة والمقتولة. 

يداك الصغيرتان، تماثلان بدقة خاصتي

الإبهام فقط أكبر وأطول – في هذه الأيدي

يمكنني أن ائتمَن العالم، أو في عدة أيدي مثلها. 

كيف يمكنك أن تحبي جسدًا مشابهًا جدًا للجسد الذي تعلمتِ أن تكرهيه، تعلمتِ أن تشعري بالخجل منه منذ الولادة؟

في بعض الأحيان، تبدو المحبة والثقة كمشاعر غريبة بالنسبة لي، لغة تعلمتها عبر تكرار أغاني الحب منذ كنت طفلة تلاعب بشغف انعكاسها في المرآة، نفس المرآة التي تعلمت فيها تجنب نظرة عيني نحوي.

قرأت أدريان بينما أفكر في الأيدي التي أثق بها. تتبادر إلى الذهن عدة أشياء، مثل يد الأب وهي تلكم وجه الأم، ويد الأم الأقل قوة والأقل غضبًا وهي ترد الضربة في الهواء. ليست الأيدي سوى تهديد، تذكير حقيقي بالعنف الذي يحب العالم تسميته “المحبة”. أفحص يدي… مزيج من يديّ أمي وأبي. لا عجب أنني تعلمت لكم الجدران في وقت مبكر من حياتي.

الحب الكويري صراع يومي، ليس لأجل قبول المحبة فقط، لكن أيضًا للثقة في أن الأكف المفتوحة نحونا قادمة للملاطفة وليس للصفع، وأن هذه الأيدي ذاتها لن تمزقنا بَطْنًا لظهْر. أنا لا أثق في الأيدي خوفًا من أن يقدم أبي أو أبوها من خلالنا بإطلاق العنان لنفس الغضب مرارًا. لا شك أن التشابهات والتوازيات جذابة من الناحية الجمالية، لكن كيف يمكنني التوقف عن إسقاط وتغذية نفس العار؟ 

حين أكون بعيدة عنكِ أحاول خلقك بالكلمات،

هل أستخدمك ببساطة كنهر أو حرب؟

وكيف استخدمت الأنهار، كيف استخدمت الحروب

لأتجنب الكتابة عن الأسوأ بين الجميع

ليس جرائم الآخرين، ليس موتنا حتى،

لكن الفشل في اِبتغاء حريتنا بشغف كافٍ. 

الشيء الوحيد الذي كنت أثق به دائمًا هو الكلمات – الرقص على بياض الصفحات التي كانت فارغة ذات مرة. يعني الوقوع في الحب التَوق العميق للكتابة عن الحبيبة. استخدمت الكلمات مثلما استخدمت الأجساد، حتى أتقنت فن الاختباء على مرأى من الجميع، ليس بين السطور، لكن بين الكلمات.

حالما حلمت بكلمات مُتَّضحة ونافِذة كتلك التي اعتدت أن أصادفها، اعتقدت ذاتي الأصغر سنًا أن دفتر يوميات بقفل على شكل قلب كافٍ لإخفائها. انتهى الأمر بقصة مضحكة عن والدتي تقرأ كلماتي وعباراتي باِستِهزاء استوقفني فجأة، بينما كنت عائدة إلى حيث احتفظت بيومياتي الحبيبة، لأكتشف أن الأقفال نفسها تخون الأسرار… بالمقدار المناسب من القوة.

لم أستطع التوقف عن الكتابة، تعلمت فقط أن أخفي الأشياء بطريقة أفضل – حتى قابلت امرأة طلبت مني كتابتنا. بدا وكأنني أحبك، فقد أمضيت ليالٍ عدة إلى جوار جسدك النائم، هزته ليستيقظ وتتمكني من قراءتي، كنت أدرس ملامحك بعناية أثناء القراءة، متوقعة أن يخونك وجهك ويظهر إحباطًا، أن تملأ ضحكة أمي الغرفة، “أنتِ فاكرة نفسك مين؟ نجيب محفوظ؟” حفظت العديد من المسودات، لكنني لا زلت لا أثق في الأقفال أو كلمات المرور… فقط فن الاختباء في كلماتي. 

لكني أريد المتابعة من هنا معك

مقاومة إغراء امتهان الألم. 

حين أقرأ المزيد من القصص التي تشبه قصتنا، فإنها بحاجة ماسة إلى التحقق من صحتها. لكن كلما قرأت أكثر، كلما شعرت أنه لا يوجد أمل. أصبحت قصص أجساد الكويريين مرادفة للصدمة، ولا يسعني إلا أن أتساءل عما إذا كان بإمكاننا تخيل أي شيء يتجاوز تلك الصدمة، الرفض والخوف. أنحن مشغولون جدًا بمحاربة الواقع حتى يتاح لنا تخيل المستقبل؟!

ما هو الكويري دون الصدمة؟ صدمتنا هي جواز سفرنا، كما صاغتها ياسمين نير ببلاغة، والقبول المدفوع بالشفقة ليس مساواة. إن رؤيتنا فقط في ضوء صدمتنا لا يسمح لنا بأن نكون أشخاصًا بهم عيوب. إنها خزانة داخل خزانة وأنا أخشى أنه لكي يتم قبولنا كنساء كويريات، فإننا نظهر جروحنا دون إظهار حقيقتنا أبدًا.

تتبعني الرغبة في القبول في كل مرة أحاول فيها الكتابة. أنا خائفة حقًا من الكتابة. من الأسهل أن أغضب من أولئك الرجال والنساء الذين لا يمتلكون الشجاعة الكافية للكتابة عن أنفسهم بدلًا من مطالبة نفسي بالمثل.

أنا فَزِعة من كتابة أو مشاركة مسوداتي… من تسمية وجودي. آمل أن يقوم شخص آخر بذلك بدلًا مني. حتى لغتي تخونني في هذه اللحظة، فأتحدث بلغة المستعمر، المختلفة عن تلك التي أحلم وأتألم بها. أواصل تكرار الحجج بشكل يومي تقريبًا (لأي شخص يستمع) حول قوة اللغة وأهمية تسمية الأشياء، لكن في الوقت ذاته أفتقر إلى الكلمات لتسميتنا أو حتى تسميتي. ما نملكه هو كلمات تُقدم طبقة واحدة في كل مرة. 

أترقب

رياحًا ستفتح بلطف هذه المياه المنهمرة

لمرة، وتريني ما يمكنني فعله

لأجلك، يامن جعلت غير المسمّى

مسمّى لأجل الآخرين، لأجلي حتى. 

“اكتبينا”، يتردد صدى الكلمات في ذهني بين الأخوات، والرفيقات، والحبيبات، والنساء اللواتي يحملن نفس نار الرغبة المحرمة؛ بإرادة للعيش أكبر من العالم وأقوى من الكراهية. اكتبينا، قولي إنكِ كنت شاهدة، ولم يكن الأمر كله خزيًا وأحلامًا محطمة. اكتبي قصص حب قوية لدرجة تحول الظلام إلى ظل مُتلطف، وخزائن كبيرة كافية لإقامة حفلات؛ فن العيش في بطن الوحش. اكتبي الأشياء الجيدة، والسيئة والقبيحة عن مجتمع مشابه إلى حد كبير لكنه مختلف، آثار أولئك اللاتي فقدناهن/م للموت، المرض، واليأس، وأولئك اللاتي علمننا أننا لا نستطيع النجاة إلا معًا.

أحيانًا بين أجساد النساء الراقصات، أسمع صدى الموسيقى يتردد عبر الزمان والمكان: لسنا الباكُورَة ولن نكون الختام، كما يحاول العالم جاهدًا إخبارنا.

بوصفي امرأة كويرية لا أملك سوى الكلمات، ما زلت أخشى رغبتي، واحتياجي إلى أرشفة هذا التاريخ نار مشتعلة داخلي، تلتهمني، ولا تنطفئ إلا بقبول توق وشوق الجسد، العقل والروح.

أود لو أمسك بيدك بينما نرتقي المَسلَك، لأشعر بشرايينك تتوهج في قبضتي.

بالنسبة لرفيقتي في التمشية الليلية، فقد انفصل مَسلكنا، انقسم إلى اثنين بثقل الحب والكراهية. عندما أُسأل عما حدث، عادة أجيب: “حدث الزمن”. أحيانًا استمر في تتبع خطانا في الشوارع القديمة ليلًا، أتتبع الماضي عبر أسطر شعرية في مجموعتي الشعرية المتنامية لأدريان وشاعرات/اء وكاتبات/ب آخرين. أخط أسطري بقلم رصاص لتتقاطع الكلمات مع حياتي، أصيغ خاصتي وخاصتها، رسائل متبادلة في أوقات الوجد والحسرة، وقصائد قُرأت بصوتٍ عالٍ في غرف النوم كتَعاوِيذ تحمي عالمًا من الأمل.

يبلغ الكتاب ست أعوام الآن، لكن الحِصن المشيد من الكتب والقصائد ليس قويًا كفاية لمنع العالم الخارجي من تسريب أسماء ووجوه النساء اللواتي تم جرهن عبر الشوارع نحو زنازين السجن لتجرؤهن على الرقص، على أن يكُّن نساء؛ تخمَّرت وجوه وأسماء الكويريات/ين المتساقطات/ين بسبب المجتمع. عندما أفكر في أمي الآن، أفكر في القوة التي تطلبها الأمر خلال تلك الأوقات للوقوف أمام عيني الصغيرتين وتلقي الضربات دون أن تخر على ركبتيها أبدًا، ذات القوة التي كان من الأَيسَر بالنسبة لي وصفها بأنها ضعف. رأيت فقط ضعفها. بإدراك التشابه مع والدتي ومع عديد الحبيبات، فقد عدت إلى نقطة البداية. لقد أدركت أن النجاة فن تتقنه النساء في بلد وعالم يستمر في ضربهن ووصفهن بالضعف لعدم قدرتهن على رد الضربة.

عندما أقرأ أدريان الآن، أحلم أنني أستطيع قراءتها لأمي، أول امرأة تعلمت أن أكرهها وأحبها. أريد أن أسألها، “هل علمتِ مخاطر الكلمات؟ ألهذا لم تريديني أن أكتب؟”

بالنسبة للمدينة، أفكر في ست سنوات دفعتني من الحلم بنص مثالي وكتابة رسائل الحب إلى صياغة خمس رسائل وداع تُسلم بعد المغادرة، لأن العالم كان فادِحًا للغاية وكان المهرب الوحيد حينها هو الحلم بنوم أبديّ طوعيّ بدلًا عن انتظار أسوأ نهاية؛ حياة بلا أمل، تطبيع كل القبح والعنف، وتحويل الكلمات إلى حبر على ورق فقط. 

هذا ما كنا عليه، هكذا حاولنا أن نحب،

وهذه هي القوى التي أعدوها ضدنا،

وهذه هي القوى التي أعدوها بيننا،

بيننا وضدنا، ضدنا وبيننا. 

  صرت أفهم أدريان أكثر وأراها كإنسانة وليست شاعرة فقط؛ أقدر الكلمات المخبأة بين السطور بدلًا من وصفها بالجبن، كما لو أن الخطر أقل واقعية لأولئك اللاتي همسن، كما لو أن ألسنتهن لم تقطع كلساني بسبب المطالبة باسترداد الأجيال مجهولة الهوية.

وهكذا كتبت، مفكرة في أيادٍ كثيرة، صاغت كلمات لن ترى نور الأرواح والقلوب الناجية التي تجرأت على المحبة حتى سمعت نفسها تتحطم. كلمات تسافر إلى جسدين فتيين يمشيان في شوارع مدينة باردة تعد بأمل ومستقبل أفضل، ما يؤكد صحة الحاضر.

ها أنا ذا، ها نحن ذا؛ نعيش، ننبتُ من الخرسانة، نتبع رائحة الرغبة، نسير نحو دقات القلب التي لا يمكن إيقافها. ونكتب، مسترشدات بشعر امرأة آمنت بالضعف الجذري والحنوّ. 

لو أن بإمكاني إخبارك،

فإن امرأتين معًا أمر ناجح.

 

 روي الجذور 

Share Button

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.