بحْثًا عن رغْبة كويرية: رسالة لأليفة رفعت


بحْثًا عن رغْبة كويرية: رسالة لأليفة رفعت pdf

كتابة: هند ونادين 

ترجمة: سماح جعفر

هند ونادين كاتبتين كويريات من الإسكندرية، وهن أيضا محررات ومترجمات. 

 

“تضج الحياة بالألغاز. قوى غير مرئية في الكون. عوالم أخرى غير العالم الذي نعرفه. روابطٌ خفية، وأشعةٌ تجذب الكائنات لبعضها، ويتداخل تأثيرها. يمكن أن تندمج معًا، أو أن تكون غير متوافقة مع بعضها. يومًا ما، يمكن للعلم أن يصل إلى وسيلة تربط كل العوالم، مثلما استطاع العلمُ أن يجعلَ من السفر إلى كواكب أخرى حقيقةً ممكنة.. من يعلم؟ 1” – أليفة رفعت

 

عزيزتي أليفة/فاطمة 2

لقد كنت أبحث عنكِ، عن حكايتكِ، أجمع السرديات المختلفة معًا. تارَةً أبحث بعجالة، باندفاع حتى، كما لو أن حياتي تعتمد على الأمر. وتارَةً أبحث بِدِقّة، أفكك الصفحات والكلمات والحكايات، كما لو أنني أبحث عن نفسي، عما يشبه المعنى في “عالم مَجْهول”.

حين اعترفتُ لنفسي أنني أحب صديقتي المفضلة “صَفِيّتي” واعَتَرفَت لي بدورها، وجدتني أبحث عن حكايتنا في كل مكان؛ في حكايات الآخرين، وفي الروايات والأفلام. بدا الأمر كما لو أنني أبحث عن مَوْطِن أو نعيم أو مكانٍ آمن أو تاريخ مشترك شائِع مع نساء مثلنا… نساء أحببن نساء.

كنت أبحث باهتمام، أقرأ بين السطور، كما لو أنني أعيد كتابة قصص الآخرين في مُخيلتي، أقبض المعاني، وأخلق شيئًا من لا شيء.

قبل بضعة أعوام، عادت أختي إلى المنزل بمجموعة من الكتب المستخدمة التي اشترتها. كنت أبحث عن شيء خفيف لأقرأه. وجدت كتابًا هزيلًا، وهي مجموعة قصصية باللغة الانجليزية عنوانه “بعيدًا عن المئذنة” كتبته أنتِ. لأصدقك القول، فإن شكل الغلاف والتعريف في مؤخرة الكتاب كان بهما نمط اسْتشراقي أصابني بالغثيان. استُخدِمت في مقدمة المترجم كلمات مثل “رفعت الخمار” و”المجتمع الإسلامي التقليدي” و”الأصالة المميزة”. بدا الأمر كما لو أن عالم أنثروبولوجيا يحدق خلال عدسة مكبرة موجهة نحو مجتمعات غير بيضاء. على كلٍ، كان لدي القليل من وقت الفراغ، وفكرت “لمَ لا؟!” 

ثم في واحدة من قصصك، في أكثر مكانٍ مستبعد بينها جميعًا، وجدتُ أثَر رغبة مَألُوفة ومُتَعَاظِمة وعاطِفِيّة في الخفاء. كانت للشخصيات أسماء عربية. دارت أحداث القصة في منزل على ضفاف النيل في المنصورة. حدثت القصة في هذا البلد. هنا. في الوطن. امرأتان. تشتهيان وتحبان وتزفران لَذّة. رأيت القليل مني في كلتيهما: الإنسية، الزوجة الوقورة لمسؤول حكومي، التي يراها المجتمع بطريقة معينة، وتحس بارتباك داخلها. والمرأة الأخرى، الحَيّة، الجِنية، التي تتسلل جيئة وذهابًا خلال فَجْوَة خفية في الحائط. تختفي قبل أن يلمحها الآخرون. متخَيلة لكنها مَحْسُوسة ومُتَنَفسة وحقيقية.

أنا مَأخُوذة بعالم شخصيتك الأساسية. تمُر الأشهر، لكننا بالكاد نعرف الأحداث الخلفية. عوضًا، أنا مأخوذة – كما هو حال شخصيتك الرئيسية – بعلاقة الحب مع الحَيّة التي ظهرت لها ذات صباح مشمس في الحديقة. علمتُ أن لديها أطفال، لكنني لم أتعرف عليهم. يُلمَح زوجها في الخلفية فقط، وهو السبب وراء انتقالها من القاهرة إلى المنصورة. في بعض الأحيان يكون مصدرًا للذنب. حين تتوق إلى رؤية الحَيّة، يدفعها الذنب لإخبار زوجها عن وجودها، ما يدفعه إلى الصعود إلى الفجوة في الجدار حيث ظهرت الحَيّة أول مرة. أنت لم تمنحيها هي أو الحَيّة أسماءًا أبدًا. تعرفان بعضهما باسم “المحبوبة” فقط. تنزلق بطلتك من وإلى هذه العوالم: تقضي نصف اليوم في تَأثِيث منزلها والنصف الآخر تستهلكه في علاقتها مع محبوبتها الْجِنية الحَيّة.

أنا أيضًا كالحَيّة، أنزلق من عالم إلى آخر. بين عالم مُسْتَتِر وآخر مَنْظُور. جسدي مفقود في أحد العوالم، موجود فقط بشكله المادي، يؤدي الواجبات والتوقعات المجتمعية. لكن في الآخر، أتكشف وأتحقق، اسْتجلى معالم الرغبة. تصورين انقسامًا حادًا بين العالمين، حَيْث العالمين خاصّتِي يتصادمان دائمًا، وأصبح غير قادرة على التزام المُسْتَتِر أكْثر فَأكْثر. تصبح الفجوة المتبقية بين العالمين مُشْبَعة بالغضب والمرارة. أفكر في ذلك اليوم، جالسة في الحمام، أبكي بفؤاد منكسر عقب محادثة ثقيلة على الهاتف مع حبيبتي. ماما في الخارج تُدندن، ساهية عن ألمي. أكافح لأكون حاضرة، لأتظاهر أنني بخير. أنا منهكة، هل أحسستِ بالشيء ذاته؟

أكنت ممزّقة بين عالمين حين قررت اعتماد اسم “أليفة”، في محاولة – كما قرأت – لتجنيب أسرتك خِزْي تعريفك كامرأة تكتب عن الجِنْسانِيّة “دون خجل”؟ كيف التقى عالماك وكيف تباعدا؟

بعض الأشياء تبدو سهلة عندك. تعايش الدين والرغبة في نفس العالم. تصورين حبًا مُتَحابكًا بآيات من القرآن. الحَيّة الْجِنية تظهر بـ “أكثر شكل مُتْقَن للجمال”، شكل امرأة، تحمد الله وفي نفس النفس تفخم مزايا حبيبتها. أخبروني دائمًا أن الإيمان والرغبة، لاسيما الرغبة الكويرية، لا يمكن أن يمتزجا. قدر لهما أن يكونا على جانبين مُتقابلين من حلبة الملاكمة، يخوضان صراعًا شرسًا وأزَلِيًّا. أنْ أرى تصورك عن “الحب الحلال”، الذي باركه الله تعالى نفسه، حب لم يهز عرش الرحمن، هزني ذلك حتى النخاع. أنْ أرى النَّيْك كتَغْذية وليس خطيئة، كشيء مقدسٍ، وليس إثمًا، كان تَجَلّيًا.

لكن جزء مني طمعان. جزء مني يتمنى لو أن الْجِنية اتخذت شكل امرأة بشرية ذات جلد ناعم، وشفاه دافئة، وأعين ساغبة. جزء مني يتمنى لو أنها لم تأت من “عالم المجهول”. لو أنها عوضًا جاءت من واقع مَلْمُوس وفوضوي. امرأة بالإمكان لمسها، شمها، تذوقها. لكنني أفهم أنك ربما كنت مقيدة. ربما كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لتُصوٍّري امرأتين متحابتين.

ربما يمتد المجاز إلى أبْعَد من جسد الحَيّة كمجهول. ربما كنت تتحدثين عن جسدك. خلال نشأتي، بدا جسدي غريبًا عليَّ. دخيلًا حتى. عندما ألمس نفسي، كانت طبقة من الملابس دائمًا تفصل الأصابع عن الجلد. كلانا أتت من مجتمع لا يشجع استكشاف الذات. أشعرتِ بنفس الشعور؟ أقلصتِ التضاريس الشاسعة لجسدك بحيث لم تعد مرئية بسهولة؟ أتعجبتِ وارتعدتِ في آنٍ من البلل بين ساقيك، قوس وركيك، واستدارة ثدييك؟ ربما على إحدى النساء أن تكون حَيّة، حتى تتمكن من توجيه أصابع عشيقتها إلى كل ركن من جسدها، لتنزلق عبر كل نتوء على جلدها، لتعلمها كيف تقرأ وتحب نفسها. ربما الحَيّة هي المرأة، والمرأة هي الحَيّة. من تعرف؟ أتمنى أن تخبريني. لم أكن معجبة أبدًا بالغموض. سوف أصنع لك كوبًا من الشاي بلبن، وأحضر علبة من البسكويت، ويمكنك أن توضحي كل مقصد وخيار اتخذتهِ.

لقد تُقت لقراءتك باللغة العربية، تخيلتُ كيف سيكون الأمر لو كبرتُ على قراءة قصتك وقصصٍ تشبهها، لو لم يتم محوك أو بَتَرِك. بحثتُ عن النص الأصلي في المكتبات، على الإنترنت، لكن في كل مرة أسأل كان الناس يسألون بحيرة: “من هي أليفة رفعت؟ أهي كاتبة جديدة؟” اكتشفتُ أنك معروفة جيدًا في بلدان أخرى فقط. غالبًا ما تُقرأ كتبك باللغة الانجليزية بتكليف من دور نشر تفضل النمط الاستشراقي. شعرت وكأنني فقدت شيئًا من جديد. تعلمت منك، لكنني لم أجدك. وجدت قطعًا متفرقة منك هنا وهناك. مقال يصف أعمالك بأنها “جَدليّة”، ومقال آخر عن حياتك (أو ما هو معروف عنها)، من تزوجتِ، متى ولدتِ، أين عشتِ. ما أردته هو مذكرات لأفكارك، فرضياتك وآمالك، بكلماتك، وليس مجرد قوائم تواريخ وأسماء.

لكن من كنتِ؟ لقد قضيتُ وقتي في اختلاق قصص. هل كانت لديك حبيبة متخفية كـ “صديقة مفضلة”… قصة تشبه قصتي. هل اشتهيتِ، أحببتِ، رغبتِ في امرأة. أتمنيتِ قصة مختلفة، شيئًا يتجاوز واقعك المباشر؟ ألهذا كانت الطريقة الوحيدة التي تمكنت بها من تخيل حب امرأة توجب على تلك المرأة أن تكون من واقعٍ موازٍ؟ عالم يتجاوز حياتك اليومية المباشرة.

ما زلتُ ألعب لعبة التخمين والكتابة، وأُعيد كتابة قصتك. أفعل الشيء ذاته مع نفسي، أمحو وأُعيد الكتابة، أتمزق بين المُسْتَتِر والمَنْظُور. حربٌ بين العوالم التي بناها الآخرون، والعوالم التي خلقتها لنفسي.

عندما كنت صغيرة، تخيلت أن هناك صندوقًا داخليًا كنت بحاجة لملئه. في محاولة لمعرفة من أنا، بحثت عن أشياء هنا وهناك، أشياء صغيرة ارتبط بها. كنت أحاول إنشاء أرشيف يساعدني على فهم العالم. حاولت ملأه بقصص أستطيع لمسها ورؤيتها وشمّها. قصص أستطيع أن أتنفسها بألفة. حاولت ملأه بقصص أنيقة، تتناسب معًا، متسقة، لكن في النهاية، ملئ بالتناقضات والفوضى.

 أنا عالقة مع هذا النص، ترجمة لقصة كَتبتِها بنفس اللغة التي نشأت عليها، تذكير لما تُرَجِم وما مُحِي.

أتساءل أين أنتِ الآن. آمل أنه عالمٌ دون أسماء مستعارة، أو خوف أو ذنب. عالم مألوف أكثر من ذلك المجهول.

جَمّ المحبة والسلام لكِ.

 

قارئة

 روي الجذور

Share Button

Footnotes

  1. بعيداً عن المئذنة, مجموعة قصصية للكاتبة أليفة رفعت نشرت بتاريخ يونيو 1987, ص61

  2.   أليفة رفعت (5 يونيو 1930 – يناير 1996) كاتبة ومؤلفة مصرية. لديها مجموعة من القصص التي عكست حياة النساء المصريات في الريف المصري

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.