جاين

 

جاين  (PDF) 

كتبت: روث سيرجال، واتحاد تحرير المرأة في شيكاغو

 

هذا المقال مقتبس من مقابلة أجرتها بيكي كلوشين في عام ١٩٩٩

 

ترجمة: نُهير عماد 

بعد مرور وقتٍ قصير على اصطدام روث سيرجال المرتبك بالأفكار النسوية، مرت بلحظة فارقة، أدركت فيها أن تحرير المرأة أمر منطقي تمامًا. خاضت سيدات كثيرات تجارب مشابهة في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. لكن بالنسبة لروث، كان الاستماع إلى لقاء إذاعي في عام ١٩٦٩ مع مارلين ديكسون – وهي أستاذة بجامعة شيكاغو أُقيلت من عملها نتيجة لمجاهرتها بدعمها لحركة تحرير المرأة – هو ما شكل فارقًا حقيقيًا.

ورغم أن روث كانت إحدى المشاركات في الحركة المناهضة للحرب على فيتنام، إلا أنها شعرت بالحاجة إلى فعل شيء آخر. تقول: «كنت أبحث عن شيء مختلف لأنني لم أكن مستعدة لأن يُلقى القبض عليّ بسبب مشاركتي في الحركة المناهضة للحرب. ليس لأنني لم أهتم بأهدافها، لكن لأنها لم تكن معركتي الشخصية بأي حال من الأحوال. وكنت أعرف أن حركة المرأة هي معركتي الحقيقية، وأنني مستعدة للتضحية بكل شيء في سبيلها، حتى لو أُلقي القبض عليّ (وهو ما لم يحدث في نهاية المطاف). لكنني ذهبت إلى ذلك المنزل، ورأيت نشاطات مختلفة، وكيف نظمت القائمات عليه أشياء متنوعة. 

وجدت هناك جمعية اتحاد المرأة، وحضانة نهارية، وبعض الرياضات، وصحيفة، وخدمة استشارية خاصة بعمليات الإجهاض. ولأنني كنت باحثة اجتماعية، وكنت أعرف عن مبدأ التدخل في الأزمات، كان هذا بالضبط ما فعلته. لم يكن اهتمامي بقضية الإجهاض هو السبب الوحيد وراء مشاركتي في الخدمة، بل لأنه كان مجال عملي بطبيعة الحال».

دشنت جاين خدمة إحالة، لكن بالنسبة لروث والأخريات كان التعامل مع منفذي عمليات الإجهاض من الذكور تجربة منهكة جدًا. كانوا يُعصبون أعين النساء، ويجرون العمليات بأسعار باهظة في غرفٍ فندقية سرية، وكان هناك شعور ملح لدى النساء بأنهن بحاجة إلى التحكم في سير العملية لا الرجال. في النهاية، استقرت الخدمة على اختيار واحد منهم، بدا أكثر مرونة عن البقية. وبعدما ادعى كونه طبيبًا، أصبح معروفًا في هذا المجال باسم «مايك». ولم يشكك أحد في خبرته المهنية بصفته منفّذا لعمليات الإجهاض، لكن تبين لاحقًا أن مايك لم يكن طبيبًا من الأساس. 

وتحكي روث عن جلساتها وجودي بارسنز للتفاوض معه: 

«ذهبت كل منا للتحدث معه بمفردها. رفض الحديث مع كلتينا في جلسة واحدة لأنه شعر بأننا ندبر له مؤامرة ما. لذا ذهبت أنا للتحدث معه أولًا. ولم أنجح في الوصول إلى اتفاق معه، في حين تمكنت جودي من إقناعه بخفض تكاليفه، وكانت أكثر حسمًا مني. أصبح مايك وجودي صديقين مقربين جدًا بعدها، واستمرت صداقتيهما سنوات».

وفقًا لروث، كانت شخصية مايك معقدة، تصفها قائلة:

«كان نصابًا، بالمعنى الحرفي للكلمة. أثناء الأيام التي قضيتها في الخدمة الاستشارية، كونت انطباعًا عنه أنه أكثر رجل متحيز جنسيًا قابلته في حياتي. كنت أتحمله بالكاد، وكان التعامل معه مستحيلًا. هذا ما شعرت به؛ بأنه أكثر الرجال تحيزًا، وكان لا يتردد في إظهار ذلك. كانت شخصيته مركبة للغاية، وأظن أنه لم يقابل في حياته شخصًا كجودي، لم يكن هناك شخص مثلها، أو مجموعة مثل مجموعتنا عمومًا.”

نشأ مايك في بيئة عنيفة للغاية، كان معظم أصدقائه إما في السجون، أو لقوا حتفهم. وكان يعيش بمبدأ: اعتنِ بنفسك أو سيفتك أحدهم بك يومًا ما، وأن على المرء أخذ حذره طوال الوقت.

كل ما رآه مايك فيَ هو أنني خائنة و«عصفورة»، لأنني كنت الشخص الوحيد الذي أصر على أن يكشف للجميع أنه لم يكن طبيبًا حقيقيًا. غضب بشدة؛ صاح وصرخ ولم يتمالك نفسه، وشعرت أنا بالسوء. عاد مايك إلى كاليفورنيا، واتصل بي ذات مرة واعتذر. كان آسفًا بصدق. كان شخصًا معقدًا… جدًا.

وأثناء عمل مايك لدى جاين، علّم العضوات الأخريات أسلوبه في إجراء عمليات الإجهاض. وكلما ازداد عدد النساء اللواتي تعلمن طريقته، توقفت عادة عصب عينيّ العميلة، وانخفضت تكاليف العملية. دربت كل امرأة دربها مايك نساء أخريات، لذا بعد رحيله، أصبح مجمل الفريق العامل لدى جاين من النساء». 

كانت الخبرات الطبية داخل جاين من الناحية التقنية جيدة جدًا، لكن العاملات بها شعرن بأن المعرفة التقنية ليست كافية. كانت السيدات اللواتي يسعين إلى الخضوع لعمليات إجهاض بحاجة إلى الشعور بأنهن جزء من العملية نفسها. ومع أن تعبير «تمكين المرأة» كان قد أصبح كليشيهًا سياسيًا مهترئًا وقديمًا حينها، أخذت جاين الفكرة بجدية. تعلمت الاستشاريات وموظفات الاستقبال الإنصات إلى العميلات بحرص، فكان ما لا يُقال مهمًا بقدر ما يُقال. تشجعت النساء على الحديث عن أنفسهن وحيواتهن، وكن يتحدثن عن تحرير المرأة، وكيف كان المجتمع ينتظر منها دائمًا أن تكون جذابة ومرغوب فيها، ثم يعاقبها إذا حدث وحملت من أحدهم. كذلك تشجعت النساء للحديث عن تجاربهن الشخصية مع الأطفال والحمل والإجهاض. أرادت جاين شرح تجربة الإجهاض من الألف إلى الياء حتى تقرر النساء ما يردنه بحكمة. 

وتابعت روث: «كانت إحدى النقاط التي تحدثنا عنها بكثرة هو أننا لم نكن نفعل شيئًا بالعميلة، بل كنا نفعله معها. كانت كل منهن جزءًا من التجربة، ومن الإجراء نفسه، مثلهن مثلنا. لذا كنا نتحدث عن أننا نعتمد عليهن في ألا ينكشف أمرنا. كنا نشرح لهن أننا من يخالف القانون – لا هن – لكننا بحاجة إلى مساعدتهن. يجب ألا يتحدث أحد عن الخدمة، وأن يكون حريصًا على الكتمان. صحيح أن كل هذه السرية أمر شديد الصعوبة، لكن هذا ما علينا فعله. وكانت السيدات متفهمات إلى حد كبير». 

تكونت جاين من مجموعة متنوعة من الأشخاص، واختلف أسلوب كل واحدة منهن: 

«بعضهن كن مهتمات بالسياسة أكثر من أخريات، وكن قادرات فعلًا على إدارة مناقشات سياسية محكمة. بينما كانت أخريات هادئات، قادرات على خوض مناقشات ودودة ولطيفة. اعتمد الأمر على طبيعة الشخص نفسه. كانت كل منهن تساعد الأخرى بشكل عام، دون الحاجة إلى تقديم مساعدات كبيرة بالضرورة. إذا كانت إحدى السيدات مثلًا على وشك الخضوع لعملية إجهاض، تجد أخرى تحاول تهدئتها، مثلما يحدث في أي عيادة عادية، وتخبرها بأن الأمر ليس بهذا السوء. كن طيبات تجاه بعضهن. ربما لأننا كنا ندير الأمور بهدوء وروية، وكنا نحاول طوال الوقت احترام الآخر. أظن أن هذه الطريقة في إبداء الاحترام والحفاظ على المساواة تساعد الناس على الاتحاد، وتقربهم إلى بعضهم البعض. وأعتقد أن أغلبهن شعرن بدعمٍ حقيقي، وبالدفء والقبول، أو أيًا كان ما تقدمه كل منا. أظن أن لكل واحدة منا أسلوب مختلف عن الأخرى. عن نفسي، حاولت أن أكون حاضرة قدر المستطاع، كانت تلك طريقتي. كنت أحاول أن أشعرهن بالراحة، لذا كنت حاضرة، أو هكذا أظن أنني فعلت، حاضرة بشكل قوي وهش في الوقت نفسه».

حاولت جاين توظيف المتطوعات وفقًا لمهاراتهن وقدراتهن. روث نفسها لم تشعر بأنها واثقة في نفسها بما يكفي لإجراء عملية الإجهاض بنفسها. 

«أعتقد أنني شعرت في بداية الأمر برغبة في الاطلاع على ما يحدث في العملية. ولأنني كانت لدي رغبة قوية في مساعدة الناس، كنت موجودة لتقديم الدعم، والربت على يد كل من تحتاج ذلك.

أردتُ تقديم بعض المساعدة، أو حتى محاولة إجراء عمليات الإجهاض بنفسي، لكنني واجهت صعوبة كبيرة في ذلك. كنت قادرة على إجراء الجزء الأول من العملية – وهو توسيع عنق الرحم، وإعطاء الحقنة – لكنني لم أستطع إجراء الإجهاض نفسه. بإمكاني فعل ذلك الآن، لكنني لم أقدر وقتها. صرت أثق في يديَّ لأنني أصبحت ماهرة في عمل الفخار. يشبه الأمر الفترة التي كنت أواجه أثناءها صعوبةً في تشكيل صينية الفطائر، لكنني لم أعد أواجه الصعوبة ذاتها الآن. 

كنت خائفة من أن أوذي إحداهن. لو لم أستطع رؤية ما تفعله يدي، كيف أعرف أن ما أفعله صحيح؟ ما دمت أرى أمامي ما تفعله يداي، لم يكن هناك أي مشكلة. لكن فور نفاذهما للداخل، وعجز عيني عن تتبع حركتهما، لم تكن لدي أي ثقة في أن ما أفعله صحيح».

قررت روث أن مهاراتها ستخدم المجموعة بشكل أفضل إذا أصبحت مسؤولة عن منصب «جاين الكبيرة»، وهو مصطلح كان يستخدم لوصف الشخص المسؤول عن توظيف الاستشاريات، ووضع جدول العمليات، وكان المصدر الرئيسي للمعلومات بالنسبة لعضوات المجموعة. وتشرح روث طبيعة عملها فتقول:

«أصبحت مسؤولة عن منصب جاين الكبيرة، وكان هذا المنصب هو المنصب الآخر الوحيد الذي يحمل هذا القدر من الأهمية والقوة. كنت محظوظة، أو بالأحرى كانت المجموعة محظوظة. كانت هناك عضوة أخرى مسؤولة عن جاين الكبيرة، ولم يكن أدائها جيدًا بما فيه الكفاية لهذا المنصب، لكنها كانت تجيد إجراء عمليات الإجهاض. لذا قررت أن أبدل مهامي معها. استطعت فعل هذا لأن منصبي في المجموعة سمح لي بذلك. ومع أن بقية العضوات كن غاضبات من قراري، لم تعبر إياهن عن غضبها تجاهي، لأنني كنت أتمتع بالنفوذ الكافي لتنفيذ ما أردته».

كان اتخاذ القرارات في جاين عملية صعبة. وكانت الأوضاع مثيرة للقلق بسبب طبيعة النشاط الذي تقدمه (الذي كان يعد نشاطًا مهددًا للحياة بشكل ما) وبسبب الأهمية الشديدة للحفاظ على السرية، واحتياج العضوات للتركيز على كسب المعرفة بصفة دائمة لأن هناك نساء كثيرات يائسات يعوّلن عليهن. كانت العضوات يملن إلى كتم خلافاتهن للحفاظ على وحدة المجموعة وتحقيق هدفها. خلق هذا بدوره مشاكل داخلية، لكن حين ألقي القبض على سبع عضوات لدى جاين، وأصبح كيان المجموعة مهددًا بحق، استمرت الباقيات في إجراء عمليات الإجهاض، حتى حين اشتدت الخلافات بشأن استراتيجية إدارة المجموعة.

تذكر روث إحدى تلك المصاعب: 

«أذكر أنه كانت هناك امرأة بعينها عنيفة بحق، وتتمتع بنفوذ قوي. لم تكن ضمن فريق الإدارة، ولا أذكر حتى ما تشاجرنا بشأنه، لكنه بالتأكيد كان أثناء فترة الاعتقالات. اختلفنا بشكل جذري حول ما كنا ننوي فعله، لكنني فزت. فزت لأنه بإمكاني أن أكون عنيفة بدوري حين أحتاج إلى أن أكون كذلك. لذا تغلبت عليها».

أدركت جاين لاحقًا أن حملة الاعتقالات لم تكن مخططًا لغلق الخدمة الاستشارية الخاصة بالإجهاض، لكنها كانت تصرفًا ناتجًا عن شرطي بعينه. لسخرية القدر، كانت بعض عميلات جاين ينتمين لعائلات بها أفراد يعملون بالشرطة. وكان أسلوب عمدة البلدة حينها، ريتشارد ديلي، هو تجاهل نشاطات جاين بصورة غير رسمية رغم اتباعه أساليب قمعية في أغلب الأحيان.

بعد فترة قصيرة من إصدار قرار رو ضد ويد بتقنين الإجهاض في يناير من عام ١٩٧٣، أُسقطت القضية المرفوعة ضد «إجهاض 7» في هدوء. بعض العضوات كن راغبات في الاستمرار في تقديم الخدمة، ظنًا منهن أن التقنين لم يتناول قضايا مثل التكلفة وجودة الرعاية. أخريات استسلمن أو خفن من أن المؤسسة الطبية قد تقاضيهن لأنهن كن يمارسن الطب دون رخصة، بعدما أصبح إجراء عمليات الإجهاض مربحًا قانونيًا.

لكن روث تمنت أن تصبح تجربة جاين وخبرتها الواسعة في إجراء عمليات الإجهاض نموذجًا.

«كنتُ ساذجة. ظننت أننا تعلمنا في الخدمة الاستشارية كيفية تقديم خدماتنا باحترام، وبشكل سهّل إجراء العملية على الجميع، خصوصًا النساء. ظننت أن أسلوبنا سيفيد عالم الطب، وأن الجميع سيبدأون في ممارسة الطب بشكل مختلف. لم يحدث أي من هذا بالطبع، حتى في العيادات المخصصة لعمليات الإجهاض». 

أغلقت جاين أبوابها في ربيع عام ١٩٧٣. نشأت الخدمة الاستشارية الخاصة بعمليات الإجهاض في أوقات مضطربة، ولم يمر أحد بجاين في مرحلة ما دون أن يتأثر بشدة تجربتها. 

«بالنسبة لمن أعرفهن، كانت تلك أكثر فترات حياتنا حدة، وحين توقفت، شعرنا بأننا فقدنا شيئًا ما. ولم ننجح لوقتٍ طويل في إيجاد شيء يمكننا استهلاك الطاقة ذاتها فيه. فما هي فرص أن تجد شيئًا تفعله، ليس على درجة عالية من التعقيد، ومفيد بحق؟ يمكن للمرء أن يكون مفيدًا بطرق مختلفة، لكن طريقتنا كانت مفيدة لأن بدوننا كانت النساء يواجهن مشاكل حقيقية. كانت الخدمة مخصصة لكل امرأة عاجزة عن توفير تكاليف الخدمات المعتادة لإجراء مثل هذه العمليات، أو الأماكن التي قد يتئذين إذا لجئن لأي منها. لذا ما فعلناه كان غاية في الأهمية. لا يمر بحياة الواحد إلا لمامًا، أو قد لا يمر بها على الإطلاق».

من السهل أن نقع في فخ التعامل مع تجربة جاين برومانسية زائدة. تحذر روث سيرجال من المغالاة في مدح التجربة، لأن ذلك يجعلها متجاوزة للتجارب العادية، في حين أنها ليست كذلك.

رأت عضوات جاين أن لديهن مهمة عليهن تأديتها، وقد كان. حين انتهت المهمة، مضت كل منهن في حياتها. 

ما تزال روث منخرطة حتى اليوم في العمل الاجتماعي، وأصبحت تمارس الفخار بحرفية شديدة. أصبحت يداها، التي طالما خافت من أنها لن تتحمل إجراء عمليات إجهاض فعلية، قادرة على تشكيل أجسام رائعة بالفخار. وهي الآن عضوة ناشطة في مشروع Herstory Website Project، وما تزال توافق بصبر على إجراء مقابلات تناقش فيها تجربتها في العمل لدى جاين، وتصف ما تشعر به حيال التجربة قائلة:

«لم يكن خطبًا كبيرًا. لم أشعر بأنني أفعل شيئًا بالغ الأهمية. لم أشعر بهذا على الإطلاق. كانت مجرد مهمة أخرى علي توليها. بعدما انتهت، شعرت بأهميتها. ومع أنها كانت تجربة صغيرة وليست مهمة إلى هذا الحد، فقد ساعدت عددًا كبيرًا من النساء، وكانت تقدم شيئًا مفيدًا بحق».

حارسات

Share Button

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.