جغرافيا

3 يونية 2021

جغرافيا (PDF)

كتابة: نانا أبو السعود 

مقدمة

لا أذكر اللحظة التي تبلور فيها “القاهرة ٩٤” تحديدا، على الأغلب زارتني فكرة المشروع لأول مرة في نهاية 2017،  وتطورت حتى وضحت ملامحها في ربيع 2018. أواجه صعوبة كذلك في شرح خلفية مشروعات بعينها، كيف بدأت وما الزوايا التي استفزتني وتحولت في ما بعد وبكل عفوية إلى مشروع يُصمم إطاره التنفيذي لمدة عام، وعادة ينتهي به الأمر سنة متأخرا!  

“القاهرة ٩٤” بدأ من نهايته، بدأ بعنوانه قبل محتواه، كانعكاس لترديد “Cairo” في كل مساحات المناصرة التي ترددت عليها وكل التقارير التي قرأتها. بدأنا في اتخاذ خطوات لتنفيذ المشروع، وأثناء مراجعته، ختم نقاشاتنا تساؤل “أين النسويات المصريات من كل مساحات المناصرة الدولية؟” تحول من كونه مجرد تساؤل إلى هوس، من عبء موسمي إلى شعور معدي بالفضول. كل ما وجدته عن القاهرة من حيث التنظيم النسوي سطرته نسويات لاتينيات وأفريقيات وآسيويات، ولم أجده باللغة العربية. توثيق من أجل مشاركة أدوات واستخلاصات وتكتيكات يمكن من خلالها قراءة فترة زمنية بعينها، واستيعاب لحظات بدايات ونهايات، وأجندات استراتيجية لم تستحضر المؤسسات الدينية إلى نقاشات مجتمعية حول مشروعية ما لقضية بعينها دون تحديد مخرج لهم، قبل أن تصبح المؤسسات الدينية شر لا بد منه لمناقشة أبسط القضايا، مثل موانع الحمل أو الختان في مصر. 

عندما بدأنا التنسيق (أنا ومارينا وسالي)، كان من ضمن أهدافنا التركيز على النسويات في مصر وقت “القاهرة  ٩٤”، بما أننا ألفنا من ما زلن منشغلات بالمساحات والمواضيع ذاتها من بلدان أخرى، مثل سونيا كوريا، وأنيتا نير، ولوريتا روس، وكوموديني صمويل، وليلى حسيني وغيرهن. علمنا من عايدة سيف الدولة أثناء جلسة ودية أنها أيضًا شاركت في المؤتمر الدولي للسكان والتنمية، وعلمت من آمال عبد الهادي أنها شاركت أيضًا وقت حضوري معها اجتماع إقليمي تحضيري للجنة وضع المرأة في دورتها الثانية والستين في القاهرة عام 2018. لم ننجح في مقابلة كل من رغبنا في الحديث معهن من غير المصريات لأسباب مختلفة، وصعُب التواصل مع المصريات المشاركات في المؤتمر الدولي للسكان والتنمية، لتعثرنا وتشتتنا بسبب أحداث محيطة بنا وسنة كبيسة قيدتنا. امتدت المقابلات في الفترة ما بين أكتوبر 2019 ويناير 2020. وفي مارس 2020، أُطلق البحث المكتبي بقيادة مارينا سمير. 

في البداية، فكرنا بتصميم ملفات/بروفايلات شخصية للنسويات المصريات، وأن نقابل نسويات جنوبيات غير مصريات – خاصة المستمرات في العمل بنفس مساحات المناصرة – لنفهم كيف تغيرت تلك المساحات، ونتعلم عن الفرص الفائتة والمكتسبات. بمعنى أخر، أن نلمس الدروس المستفادة. ومع الوقت، وأثناء عقد المقابلات، تغير توجهنا نحو خلق أرشفة حية من المواد المُجمعة، خاصة عندما علمنا من أغلبهن أنهن تخلصن من كل المواد والوثائق الخاصة بالمؤتمر الدولي للسكان والتنمية أثناء التنقل بين البيوت، أو لأن كل تلك الأوراق “بتلم تراب”. لذا، أصبح من الصعب العمل من أجل توثيق المقابلات فقط. 

تطور هيكل الكتابة من كتابة تشاركية بيننا نحن الثلاثة إلى محادثات و كتابات منفصلة، على الأغلب لكارثية 2020، إذ أصبح من الصعب حضور ثلاثتنا ذهنيًا في نفس الوقت. وكان شبه مستحيل أن نفكر في “تاريخنا النسوي” مع كل الأحداث العنيفة والعصيبة التي مررنا بها. انقسمت أفكارنا إلى  كتابات منفصلة نتأمل فيها الحاضر والتاريخ. 

مساحات

تبدأ الورشة برسم خط زمني ملم بالمحافل الأكثر تأثيرًا، بداية من الثمانينيات وحتى ٢٠١٥، ومن بعدها أجندة 2030 وأهداف التنمية المستدامة. في هذه الورشة، نتعلم كيف “نُشرّح” مسودة أعدتها لجنة السكان والتنمية في الأمم المتحدة حسب “التيمة” السنوية، ونفكك بنيتها، ندمج فقرات ونتخلص من أخرى، ونبحث عن مرادفات. قد يحالفنا الحظ فنجد غفلة سياسية عما قد تحمله بعض المرادفات من سياسة، وهي غفلة غريبة من الوفود الرسمية ذات الطابع المحافظ. ونستمر في هذا الأمر حتى نصل للمقترح المثالي. وأحيانًا كثيرة لا تسعفنا اللغة. 

 بعد انتهاء الورشة التي تحضرها نسويات مستجدات للتدريب على التمكن من استخدام هذه الأدوات، تبدأ الاستعدادات للمحفل السنوي. في ربيع كل عام ولمدة أسبوع، تستضيفنا لجنة السكان والتنمية بهدف متابعة تنفيذ برنامج عمل القاهرة حول العالم. تقوم المنظمات، التي تتخذ من مدينة نيويورك مقرًا لها، بتنسيق الاجتماعات اليومية واستضافتها، وتخصيص دعم مادي لتغطية نفقات سفر بعض من نسويات الجنوب. في تلك الغرفة نسويات مهتمات بتقاطع الجنس والإنجاب مع كل شئ آخر. تبدأ جولة التحديثات في تمام الثامنة صباحًا، لترصد أعداد من لم يتسن لهن الحضور بسبب رفض القنصليات الأمريكية تأشيرات سفرهن، فهن على الأغلب نسويات يعملن على المستوى القاعدي في مناطق ريفية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، أو بلد صنفته الإدارة الأمريكية بـ “الإرهابي”، أو لعدم توفر حسابات بنكية لدى بعضهن، أو لأسباب أخرى غير مصرح بها.

نتقابل كل يوم في غرفة يُعاد ترتيبها لتستوعب أفكارنا قبل عددنا، وتتجمع نسويات يتهامسن بلغات عدة. يسهل على المترددات على تلك المساحات رسم جغرافيا الحضور، المقيمات في الشمال عادةً ما يتجولن بثقة صاحبات مكان – وهن كذلك بالفعل – إذ يعمل أغلبهن لدى منظمات مقراتها في الشمال العالمي أو حاملات لجنسيات عابرة للحدود. وفي المقابل، يغلب الإرهاق على وجوه الجنوبيات وهن يصارعن فرق التوقيت بأكواب من القهوة. 

 ينضم عدد ضئيل جدًا من الرجال لاجتماعاتنا. لا أجد صعوبة في تفسير الندرة النوعية، فالإنجاب ليس موضوع “سكسي” للانشغال به على مستوى السياسات أو العمل العام. ومن جهة أخرى، بشكل شخصي، شاكرة لضئالة “السكسينس” في العمل على الحقوق الإنجابية، فيكفينا الانشغال بمصارعة الديوك التي تشهدها غرف المفاوضات بين ممثلي الدول، من أجل الوصول إلى لغة متفق عليها.

 في سبتمبر ٢٠١٥، تم اختياري بالصدفة للمشاركة في فعاليات موازية لمحفل سياسي هام لعرض الأنشطة التي أنسّقها من خلال عملي في مؤسسة تنموية تركز على خدمات تنظيم الأسرة والصحة الإنجابية والزيادة السكانية في الصعيد. كانت هذه أول مرة أشارك في محفل سياسي، وعلى الأغلب لم يتعد سبب الإختيار حدود الرمزية. وبعد عامين، تعرفت بشكل فعلي على مساحات المناصرة الدولية من خلال تكتل نسوي في المدينة ذاتها، في حيز هوامش أوسع من سياسات التمثيل. 

عودة إلى تلك الغرفة، تعرفت على اللغة كسياسة – وليست فقط كمهارة – من خلال المناصرة الدولية. على أقل تقدير، هذه تجربة مبهرة بالنسبة لشخصية نسوية غير معتادة على التكاتف السياسي، يتصادف وجودها مع نسويات مخضرمات وهي الأصغر سنًا بينهن. كل مرة كان يستحضر هذا الإدراك ما بداخلي من استياء تجاه كل لحظات افتقادي للغة ومصطلحات غير طبية، ولتحليل نسوي، ولاستراتيجيات وتكتيكات داهية لاقتناص لحظات من التحكم – ولو مؤقتا – في واقع شديد الأبوية. هذا بالإضافة إلى الأسى على الغياب التام للعمل النسوي على الحقوق الجنسية والإنجابية في مصر، وانحسار العراك على الإجهاض إلى يومه العالمي فقط، أما الصراع بشأن الجنسانية فيكون حين تسنح الفرصة. انطباعي غير قاصد للتقليل من تلك القضايا، لكن لتسليط الضوء على نقصان تحليلاتنا واشتباكاتنا، وانحسارها إلى مواضيع بعينها دون العمل على ترابطها. سأعود لهذه النقطة لاحقًا. 

من ضمن الجولات الصباحية المعتادة طوال الأسبوع، تحديثات جيوسياسية تتكون بناءًا على ما دار في غرف المفاوضات بخصوص مصطلح ما أو فقرة بعينها في الليلة السابقة. تقوم بهذه الجولة نسويات أكثر خبرة في تلك المساحات، سأشير إليهن في هذه الورقة كـ “مخضرمات”. مع الوقت، ساعدتني تلك التحديثات الجيوسياسية على إعادة رسم العالم بمفتاح خريطة بديل، يتخذ من العلاقات الثنائية بين البلدان قاعدة له. وسهلت عليّ تخيل إجابة لسؤال طالما شغلني: لم لمصر كل ذلك النفوذ في غرف المفاوضات؟ أدركت لاحقًا أن من ضمن تفسيرات نفوذ مصر القوي على بلدان أفريقية في هذه المساحات هو تمويلها للاتحاد الأفريقي ضمن بلدان أخرى، على سبيل المثال لا الحصر.  

إذن، أين هن النسويات المصريات من حضور مصر القوي في تلك المساحات؟ 

يتبع تحديثات غرف المفاوضات، تحديثات أخرى بشأن “المعارضة”، وهي مجموعات منظمة بتمثيل من المؤسسات الدينية والمجتمع المدني، دولية وإقليمية ووطنية معادية للحقوق الجنسية والإنجابية بشكل عام، وللإجهاض والمثلية الجنسية بشكل خاص. تتطرق هذه الجولات إلى المجموعات المعارضة بتغطية سريعة لكل الفعاليات التي ينظمونها للحديث عن أجنة لم تكتمل بعد، ويتجنبون الحديث عن آخرين ولدوا وعاشوا وانتُهكوا وقُتلوا على حدود بلاد أخرى بحثًا عن فرص في الحياة. لأن دورة الحياة تلك تقع تحت بند “الهجرة”، وقد يؤرق ذلك الكثير من البلدان، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. عادة ما تصحب هذه التحديثات فقرة من الضحك كبديل مؤقت للبكاء. أكثر من مرة تنظم المعارضة مسيرات وحافلات بمضامين واعظة وقاسية. لا أتجنب تخيل حالنا إذا أتيحت لحظات كتلك للنسويات في مصر، بمعنى تجمعات خاصة فقط للتنظيم والتكاتف لقراءة المشهد السياسي جماعيا، ورسم خريطة مشتركة من مؤيدين ومعارضين. في أغلب الأوقات، أُسكت هواجسي الطموحة بالتفكير في أنه عندما تسنح الفرصة لأي مناقشة جماعية، يكون من الأسهل تحويلها إلى جلسات من المزايدات، تحركها الكثير من “الدينامكس” التي لا تنتهي.  

القاهرة ٩٤

أثناء بحثي في وثائق التحضيرات لمؤتمر التنمية والسكان في القاهرة – والتي تجدد فيها امتناني للإنترنت وتسهيله للتوثيق على عكس فترات زمنية كان الفاكس أداة أساسية لحشد التوقيعات والتنظيم النسوي العابر للقارات – تخيلت أن  المقابلات الشخصية المخططة للنبش في ذاكرة النسويات المصريات ستكون الأداة الأساسية التي أستخدمها لنقل الوثائق للأونلاين. وتماديت في تخيلي لأثر ذلك على تكوين ذاكرة جماعية عن تلك الفترة  لنا وللقادمات من بعدنا. كان ذلك بمثابة رد فعلي تجاه تساؤل طرحته سالي لاحقًا في أحد اجتماعاتنا عن ضرورة مناقشة موقعنا بدلا من التركيز على نسويات التسعينات فقط. وكان بالنسبة لي مجرد نقل هذه الوثائق أونلاين هو مساهمة منا لتكوين ذاكرة جماعية. وبقدر ما كانت المقابلات غنية ومليئة بالذكريات غير المدونة، إلا أن إحباطي لاحقني عندما شاركت النسويات الأربعة تخلصهن من مواد التحضيرات للمؤتمر ومن كل ما يخص تلك الفترة عموما. شاركتنا آمال عبد الهادي العديد من الإصدارات التي التهمناها بحثا عن المزيد من المراجع، وظلت باربرا إبراهيم تتهجى لي أسماء نساء أمريكيات كان لهن دور أثناء الفترة التحضيرية، وانتظرنا ليلى حسينى التي كانت تبحث في قبو بيتها عن أي أوراق لكن بلا جدوى، وتخلصت عايدة سيف الدولة من بقايا القاهرة بعد جلستنا الودية. حتى هذه اللحظة، لا زال تسوير المعرفة والمساحات في حد ذاته – سواء عن قصد أو بدون – عرض من أعراض غياب الحركة بالنسبة لي، والذي يفيد بدوره سردية البطولة وعقدتها. تصبح السردية المتاحة بعد زمن من إنتاج شخصية بعينها، هي وحدها من كانت هناك، وهي من مثلت منطقة بالكامل، ولم تهتم بتوفير تحليلات عن تلك المساحات وكيف تتغير، خاصة أنها لا تشارك المساحة مع من حولها، وبالأخص النسويات الأصغر سنا. 

كيف قرأت القاهرة ٩٤؟

مفاوضات على الجنس والإنجاب

قبل البدء في تجميع مواد البحث المكتبي، وأثناء كتابة مسودة تخيل المشروع، بحثت عن أي وثائق افتتاحية لقراءة سياق المؤتمر من مصر أو المنطقة. وكان كل ما وجدته باللغة العربية صادرا من مجموعات دينية تشيطن الحدث، وتشير له في مواقع مختلفة من الكتابات، التي صدرت من بعضها حديثًا نقاط الاحتدام الأساسية المتجسدة في الإجهاض ومصطلح “الأفراد” فضلا عن “المتزوجين”. يأتي هذا الاحتدام من منطلق أن الأول يبيح الجنس ضمنيا بين غير المتزوجين، كما تشير تحليلات اليمين الأحدث إلى أن كلمة “الأفراد” تطبع الحق في الوالدية للمثليين والمثليات. وهي كلها تفسيرات تهدد كيان الأسرة الذي تهتم به وتعمل لحمايته وفود رسمية عديدة.

بعد إصدار البحث المكتبي، وأثناء بحثي عن وثيقة بعينها كانت قد ذكرتها آمال عبد الهادي أثناء مقابلتنا في شتاء ٢٠١٩، عثرت على موقع أرشيفي لكل وثائق مؤتمر القاهرة التحضيرية وملحقاته. ولفت انتباهي مقال نُشر بتاريخ ٧ سبتمبر ١٩٩٤ بعنوان The Legacy of Women’s Caucus، طابعها تقريري بالأساس. وقادني هذا المقال إلى وثيقة تحضيرية أخرى للمؤتمر بعنوان “إعلان النساء بشأن السياسات السكانية”، جمعت توقيعات من ١١٠ بلد حول العالم ونشرت في مايو ١٩٩٣.  قدمت الوثيقة بعض المقترحات والتخيلات لما يجب أن يتبناه برنامج عمل القاهرة في السنة التالية، واستندت إلى التفاوت في التركيز على السلوكيات الإنجابية للرجال مقارنة بالنساء، إذ يتم بناء كل التوقعات المؤسسية والمجتمعية حول مسئولية النساء عن منع الحمل وما يصاحب ذلك من مخاطر تتحملها على الأغلب بمفردها، في حين يتم إقصاء النساء من عمليات صنع القرار بشأن ما يخص أجسادهن في علاقتهن الشخصية وفي السياسات العامة. عبر السنوات، تم تجاهل الجنسانية وتفاوت القوى الجندرية تمامًا في السياسات العامة. وفي بعض الأحيان، ساهمت برامج تنظيم الأسرة والحد من الزيادة السكانية في تعزيز هذه التفاوتات. أقرأ تلك الوثيقة وأفكر في عملي في منظمة تنموية مهيمنة على مشروعات الصحة الإنجابية في سوهاج وأسيوط منذ نهاية ٢٠١٤ حتى الآن. وأتذكر كل الحجج التي استخدمتها أنا وزميلاتي لتغيير أنشطة المشروع والتواصل مع النساء المستهدفات ليعدن تصميمها بعد أن اتضح فشل خطط مقر القاهرة في التأثير على الإنجاب في الصعيد! وكان استهداف قرى الصعيد من أجل تنفيذ مشروعات صحة إنجابية خاصة قد بدأ بعد أن حولت الأجندة التمويلية لمصر اهتمامها من جديد إلى الصحة الإنجابية. وتميزت هذه الفترة بإضافة “الجندر” لكل مقترح مشروع، بعد أن زادت معدلات الإنجاب مرة أخرى بعد انخفاضها 1. وأثناء جولة تقييمية للمشروع، استخلصنا عدم جدوى الأنشطة المنفَذَة! ففي كل بيت قمنا بزيارته، فهمنا من “النساء المستهدفات” أن الرائدة الريفية التي تطرق أبوابهن لنشر التوعية بوسائل منع الحمل عادة ما تحمل معها رسائل توعوية أخرى من منظمات دولية ومحلية، فتعطيها لمن تفتح لها الباب دون تمييز لخلفية واختلاف كل مشروع عن الأخر. لا ألومها! وينتهي بنا الأمر محاولين إيجاد حجة لوجودنا في منازل هؤلاء النساء، مخترقات خصوصيتهن بعجرفة قاهرية نسأل في ما لا يخصنا. لم نتمكن من كتابة هذه الملاحظة في التقرير النهائي حتى لا نهدد استمرارية تمويل المشروع، بالإضافة إلى كوننا منسقات مشروع ويسهل تسريحنا عن تغيير أجندة تمويل. أستند إلى هذا المشروع الذي تعلمت منه الكثير، وأدركت أسباب فشلنا في الوصول إلى “الفئة المستهدفة” بعد أن تبلورت هويتي النسوية. أذكر هذه التجربة كلمحة من واقع إهدار الموارد بهدف “تحديث” النساء الفقيرات في الصعيد. حتى هذه اللحظة، لم أسمع عن أي محاولة للتواصل مع النساء في المجتمعات المسوّرة من أجل توعيتهن بضرورة حماية الوطن بإنجاب طفلين فقط. 

عزوف المجموعات النسوية ومنظمات حقوق المرأة عن الاشتباك مع سياسات الصحة الإنجابية في مصر مدهش بالنسبة لي. أقرأ ذلك بعدسة تقسيم القضايا المترابطة إلى مواضيع منفصلة مثل “الختان” و”زواج القاصرات” و”التحرش الجنسي”. وكأن ضريبة القيمة المضافة على منتجات الدورة الشهرية هي أمر ثانوي، أو أن بصمة سوء التغذية على أجسادنا وتأثيرها على الحمل والإنجاب أمر غير هام، أو أن الإجهاض قضية تصلح فقط في سياق الحريات الجسدية وكأنه اختيار غير مطروح في كثير من الأحيان للمتزوجين أيضًا بسبب الظروف الاقتصادية. أتأمل هذه التفريعات في سياق أهمية ربطهم ببعض. أكتب هذه السطور وقد تغير الوضع قليلاً أونلاين، بعد ظهور عدد من القنوات والمنصات التي تهدف إلى رفع الوعي بالصحة الجنسية والإنجابية. لم يكن الوضع كذلك منذ خمس سنوات. تدفعني هذه السلسلة من الأفكار إلى تأمل جدوى عملنا إذا لم تكن الصحة الإنجابية مفرد من مفرداته في إطار تحقيق العدالة الإجتماعية. وعند تنظيم حفل إطلاق البحث المكتبي ومشروع القاهرة ٩٤ في نوفمبر ٢٠١٩ بتنسيق مع د.عايدة سيف الدولة لعقد حوار ودي حول مشاركتها في المؤتمر الدولي للسكان والتنمية، حضر عدد لا بأس به واعتذرت عايدة عن الحضور في آخر لحظة. وجاء هذا العدد من الحضور على عكس المألوف لهذا النوع من التجمعات والاهتمام بالمناصرة الدولية بشكل عام بين جيلنا. وفي غياب عايدة، كنا قد حضّرنا خطة بديلة وبدأنا النقاش عما يعرفه الحضور عن هذا الحدث، وأخذنا الكلام إلى أهمية تلك المساحات وفاعلية هذه الأدوات. 

في تقرير بعنوان “محذوفات: كيف استُخدمت الجنسانية للهجوم على تنظيم النساء 2“، رصدت سنتيا روث تشايلد تاريخ خطاب الحقوق الجنسية في المحافل الدولية، واكتسابه شهرة ملموسة ودعم على المستوى الدولي في التسعينيات من خلال مؤتمران دوليان للأمم المتحدة، كانت لهما أهمية خاصة في تطوير هذا النقاش. المؤتمران هما المؤتمر الدولي للسكان والتنمية بالقاهرة في عام ١٩٩٤، ومؤتمر النساء الرابع ببكين في عام ١٩٩٥، بالإضافة إلى مراجعتهما في عامي ١٩٩٩ و٢٠٠٠ بالترتيب. وكان الفضل في تلك الأهمية للدعاية التي صاحبت تلك التجمعات وصدى المواقف التي تم تبنيها بهما ونتائجهما حول العالم، وكذلك ما نتج عن تجمع آلاف الناشطات من بهجة خالصة واحتدام وقواسم مشتركة. وفي التحضير لبكين، كانت وفود المؤتمر قد اطمئنت إلى اللغة التي اكتسبوها سلفًا في القاهرة، وإلى أنها لن تمر بغرف المفاوضات من جديد في المؤتمر الرابع للنساء الذي نتج عنه منهاج عمل بكين 3. وفي المقابل، كان محور هجوم اليمين هو عدد من التيمات التي قاومت إضافة “حقوق جديدة” مثل الحقوق الجنسية والميول الجنسية لقائمة حقوق الإنسان الأساسية، والتي عملوا جاهدين على مر السنين على بترها. وجاء هذا الهجوم رغم أن مفاوضات القاهرة شهدت اتفاق جماعي بأن استخدام لغة الحقوق الإنجابية لا تعني خلق “حقوق جديدة” داخل منظومة الأمم المتحدة، بل هدفت إلى تفسير وتفكيك حقوق موجودة بالفعل متعلقة بالأسرة والعلاقات الإنجابية. ببساطة، وسّعت الحقوق الجنسية تلك الأنماط الإنجابية لتشمل تجارب أخرى.  

تسترسل في هذه النقطة سونيا كوريا، النسوية البرازيلية المخضرمة، عن طريق استعراض السنوات العشر لبرنامج عمل  4القاهرة، فتقول: 

خلق مفهوم “الحقوق الجنسية” كان بمثابة منصة لتداول النقاشات بيننا، على أمل أن تقودنا المحادثات لخلق تحالفات. وعلى الرغم من محوريتها إلا إننا لا نتناقش فيها بما فيه الكفاية. علينا تقدير تعريف الحقوق الجنسية في برنامج عمل القاهرة بالرغم من محدوديته، فقد دفعت به مجموعة نسوية تعمل عن كثب على المستوى الأممي ونجحت في خلق تعريف أوسع من سياسات الهوية. ومكننا من تناول قضايا العنف والعرق والوقاية من الأمراض وفي الوقت ذاته الانبساط والاستقلالية الجسدية وتقرير المصير. قبل القاهرة، كانت سياسات الهوية هي ما تشكل المناقشات حول الحقوق الجنسية، وكانت بمثابة عرقلة لتحقيق تناول فعال أو لحل الخلافات السياسية.   

كان مؤتمر التنمية والسكان في القاهرة والمؤتمر الرابع للمرأة في بكين يشكلان لحظات سياسية هامة على المستوى المحلي والعالمي تباعًا. كانا ملهمان للمجموعات والطموحات العالقة التي أجهدها التضييق والألفة، كانا دعوة للتخيل جماعيا والتفكير سويا في كفاحنا المشترك والمتشابه كنسويات. من ضمن تحضيرات المؤتمر ولمدة عام كامل، قامت اللجنة التنظيمية لمؤتمر السكان والتنمية بالعمل على المستوى القاعدي بكثافة في صعيد مصر وفي مناطق أخرى متفرقة، من ضمنها الإسكندرية والقاهرة. وعلى الرغم من ضعف تمويل التحضيرات، كان التوثيق منتج رئيسي لها، تناولت من خلاله أهمية العمل التقاطعي، والتمعن في اللغة المتاحة للاستخدام للتعبير عن مفاهيم عدة، منها: “الجندر” و”الحقوق الإنجابية” و”تأنيث الفقر”. وجاء ذلك بالتوازي مع العمل الإقليمي في عمّان من خلال الإسكوا (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا) وفي تبادل الخبرات وأطر العمل بشكل يعكس التفكير والتوجهات الإقليمية والمحلية. كان ذلك بالتزامن مع الاهتمام المتزايد حول دراسات الجندر والدراسات النسائية، وكان محور النقاش هو كيفية خلق معرفة نسوية بلغتنا الأم. ووضح أثر هذه النقاشات الواسعة بعد إنشاء وحدات دراسات الجندر في الجامعة الأمريكية في القاهرة وبيروت، وكذلك في العاصمة اليمنية صنعاء، بالأخص من بعد  5المؤتمر الرابع للنساء في بكين (١٩٩٥)

التنمية

أول مرة قابلت باربرا إبراهيم كان في عام ٢٠١٧ اثناء إدارتها لورشة بحثية؛ كانت مشرفتي في مشروع بحثي عن موانع الحمل الطارئة، والذي لم يرَ النور بسبب تزامن جمع البيانات مع إغلاق مكتب مؤسسة فورد في مصر وتجميد النشاطات المرتبطة بها. باربرا أمريكية عاشت في القاهرة أغلب عمرها، وأثناء مقابلتي معها يسرت عليَّ ربط الأحداث ببعضها، مثل فهم حركة الهجرة الجماعية للخليج في تلك الفترة الزمنية. 

بدأت باربرا عملها في مؤسسة فورد عام ١٩٨١ بعد حصولها على الدكتوراة في الفقر الحضري، حيث التقت يسرية لوزة، أو “مرات ساويرس الكبير” كما أشارت إليها عايدة سيف الدولة في مقابلتنا في الأسابيع اللاحقة. مقابلتي مع باربرا كانت شيقة ومليئة بالذكريات الشخصية والميدانية، بسلاسة بدأنا الكلام عن ماري أسعد رائدة مناهضة الختان، والتي كانت تعمل مع يسرية لوزة في حي “الزبالين”. كان يجمعهم العمل بنهج التنمية الشاملة لمحاربة الختان وزواج القاصرات، بإدراك أهمية العمل التشاركي مع الأسر وليس النساء والفتيات وحدهن. بدأ مشروعهن ببرنامج محو الأمية للفتيات في نفس المنطقة، ودمجه بتعليمهن مهارات فنية لإعادة تدوير المخلفات. وكان الهدف الأساسي هو تأخير سن الزواج للفتيات من ١٥ إلى ١٨ سنة مقابل مائة جنيه مصري للمساعدة في “جهاز” 6 الزواج. تتحدث باربرا عن توقيت مقابلتها مع ماري كونه “مناسب جداً” لبرنامج عملها مع فورد ومع رسالة الدكتوراة التي كانت تعمل عليها آنذاك. كان ذلك بالتزامن مع تطوير البنك الدولي لمنشية ناصر وتركيزه على تطوير البنية التحتية. وتعاون برنامج فورد مع البنك الدولي بحيث يعمل الأخير على البنية التحتية وتعمل مؤسسة فورد على المحور الاجتماعي. وكان هدف فورد هو الفصل بين فرز المخلفات، والطهي، ورعاية الأطفال، والحياة الخاصة لضمان مستوى عالي من النظافة الشخصية. بنى البنك الدولي على هذا الأساس منازل بغرف معيشية مخصصة للحد من نسبة وفيات الأطفال المرتفعة، وقامت منظمة APE بالعمل على برامج التعليم. اهتمت فورد في عملها المجتمعي بالتواصل مع الجمعيات الأهلية في قطاع “أكل الشارع”، وانتقل المشروع إلى محافظة المنيا من خلال منظمة SPAAC التي تديرها سارة لوزة.   

ذلك التوجه التنموي كان قد بدأ في الانتشار على مستوى دولي، بحسب ورقة عمل أصدرها معهد الأمم المتحدة لبحوث التنمية الاجتماعية عام  7١٩٩٥، والتي ركزت على الخطابات والاتجاهات المعاصرة في ما يسمى “المرأة في مجال التنمية Women in Development” والذي عمل مناصروه على تزويد قضايا النساء بالصلاحية للترويج لها على أنها “ذات صلة” للمسئولين وصانعي السياسات حتى يقتنعوا بتبنيها ضمن خطط وأجندات العمل. بمعنى إضافة بُعد إنتاجي لقضايا النساء؛ فكلما تحسنت أوضاعهن، كلما زادت إنتاجيتهن وازدهر الاقتصاد. ومن منطلق تشكيل استراتيجية سياسية قوية، انتهجت المناصرات الليبراليات نفس النهج الذي امتعضن منه من قبل عند ملاحظتهن خضوع نساء العالم الثالث لمجتمعات أبوية محافظة بدلا من المطالبة بحقوقهن. كان منبع هذا التحول في السبعينيات في دول الشمال (وبالأخص في الولايات المتحدة الأمريكية) هو تأثيره الواضح على الكثير من المجتمعات في بلاد أخرى بشعارات مترجمة تدعو إلى إرساء مبدأ المساواة في الأجور والتوظيف بين الرجال والنساء. كما كان الهدف بالأساس هو التشويش على الأنماط الاجتماعية وجهود المناصرة في السابق التي حصرت أدوار النساء في الإنجاب، بالتركيز على ضرورة إدماج النساء في تنمية مجتمعاتهن من خلال العمل الإنتاجي، فضلاً عن برامج التغذية والاقتصاد المنزلي، وإنهاء اعتمادهن على شبكات الرعاية المجتمعية، تاركات خلفهن ثنائيات للتأمل والتناول: النساء والأسرة، الإنتاجية والإنجاب، التنمية وشبكات الحماية المجتمعية. 

تحرك اهتمام باربرا العملي بتنقلها الوظيفي من مؤسسة فورد لتشغل منصب إقليمي في مجلس السكان الدولي قبيل حرب الخليج. سألتُها عن اللجنة التنظيمية لمؤتمر السكان والتنمية في القاهرة، لمعت عيناها وهي تتذكر ترشيح عزيزة حسين من قبل مجلس السكان الدولي لترأس اللجنة التنظيمية لمؤتمر القاهرة نظرًا لكبر سنها وموقع زوجها كأول وزير للشئون الإجتماعية في الخمسينيات. 

 

الوعي النسوي 

في ديسمبر٢٠١٩، شاركنا في مهرجان إطلاق الجمهورية النسوية، وتمكننا أخيرا من مقابلة ليلى حسيني ونبش ذاكرتها. 

ولدت ليلى في الجزائر، وانتقلت للعيش في أمريكا وعمرها ثلاث سنوات. كما عاشت في المغرب لبضعة سنوات أثناء دراستها للحركة النسوية وتنظيمها بالتركيز على البعد الثقافي والاجتماعي لأجساد النساء وحقوقهن وصحتهن الإنجابية، ودرست العربية عند عودتها لأمريكا ضمن برنامج الماجستير في الصحة العامة ودراسات أفريقيا والشرق الأوسط. كانت الهدف من مقابلتنا هو البحث عما تبقى من ذكرياتها عن إقامتها في القاهرة، التي انتقلت إليها عند إتمامها الخامسة والعشرين في عام ١٩٩٣، لتعمل في مؤسسة فورد. تعرفتُ على ليلى في مساحات نسوية تنظيمية سابقا، ورتبت للقاء آخر معها عندما طغت عليها الحماسة لحديثي عن مشروع القاهرة ٩٤. كان واضح لي ألفتها مع النسويات المصريات حينها. رددت أسمائهن، وكانت المرة الأولى التي أسمع عن بعضهن، وكالعادة شعرت بالغيرة من ألفة أبحث عنها. لم أتردد حينها في دعوتها إلى مقابلة ضمن المشروع. 

وفي إطار محادثات سابقة دارت بيننا، سألت ليلى عن الاختلافات بين الأجيال كونها عاصرت نقاط تحولية هامة ولا زالت نشطة. قالت ليلى:  

 كان هناك فرص لجيلي للمشاركة في تلك المساحات [المناصرة الدولية] على نحو عميق، أتيحت لنا تلك الفرص بفضل النسويات المنشغلات بها وفيها. اشتبكنا مع السياسات مثلما كان الحال في القاهرة وبكين. ومن بعد السياسات، دفعنا بتعديلات عدة مثل قوانين الأحوال الشخصية والمساواة في الأجور لصالح النساء. من الصعب أن ننظر إلى تلك السياسات والتعديلات بدون سياق العمل القاعدي وأثر الوعي النسوي في تلك الفترة الزمنية. 

عاصرت ليلى أغلب المحافل التي تتبعتها لرسم خطوط زمنية للأحداث الأكثر تأثيرًا على الحقوق الجنسية والإنجابية في الورشة التي ذكرتها سابقًا. استحضرت ليلى في مقابلتنا الحماسة التي عادت بها النسويات من فيينا (يونيو ١٩٩٣) من بعد مناهدات ومناشدات استخلصت حقوق النساء كركن أصيل لحقوق الإنسان. وتضمن هذا التطور في المفاهيم دلالات أوسع، تشمل الجوانب السياسية والثقافية والمدنية والاجتماعية عند تناول الرعاية الصحية. بكلمات أخرى، أصبحت الرعاية الصحية حق وأصبحت الصحة الإنجابية حق. ولعبت اللغة دور مهم في تعريف تلك المفاهيم، ثم المطالبة بها، وبدأت معارك المساومة عليها. كان للعديد من الجهات المانحة، من بينها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، توجه واضح للحد من الزيادة السكانية، فمن موقعهم كان هذا هو الهدف من دعمهم لكل الاستراتيجيات السكانية في بلدان أخرى. وكان طرح تمويل الحقوق والصحة الإنجابية تحويلا للمسار السائد نحو الاستقلالية الجسدية، مقابل تركيزه من قبل على وسائل منع الحمل ومدى انتشارها.  

الطبقة

تعرفت على عزيزة حسين أثناء التنسيق لحفل توقيع مذاكرتها في ربيع ٢٠١٣. لم أقابلها، إذ كان دوري تنسيقي فقط. لفت انتباهي غلاف كتابها، بدت ملكية. ثم عادت عزيزة إلى عالمي من جديد عندما بدأت رحلة النبش عن مؤتمر القاهرة، فذكرتها ليلى حسيني وسألتنا آمال عبدالهادي إذا كنا قد قرأنا مذكراتها. وبدأت رحلة البحث عن عزيزة، خصوصا عندما فقدتها أيضَا أرفف المكتبات، إلى أن فاجأني بها زميل عثر عليها وسط أكوام من الكتب المستعملة في المعادي. 

في حيز صفحتين بعنوان “المجتمع المدني في مصر”، سردت عزيزة بإشارات مقتضبة كيف أثر المؤتمر الدولي للسكان والتنمية في القاهرة على المؤسسات الأهلية في المناطق النائية، وكيف كان لهذا الانفتاح على العالم الخارجي صداه المجتمعي. ويبدو من صياغتها الممتلئة بالفخر أن أداء وتعاون المجموعات والمؤسسات المدنية (التي وصل عددها إلى 1400 ممثل مجتمع مدني) فاق خيال اللجنة التنظيمية المحلية المكونة من 12 ممثل وممثلة 8 محليين كانت هي من ضمنهم. يذكرني وصفها لذلك الانفتاح على العالم الخارجي بحديثنا مع عايدة سيف الدولة؛ كيف كان للتعددية الثقافية والسياسية وتنوع مجالات عمل وفود المؤتمر أثرا إيجابيا على أجندات العمل المستقبلية للمجتمع المدني في مصر.

استمرت عزيزة في رفض السلطة والعمل الرسمي – كما جاء على لسانها – وعادت إلى القاهرة بعد أن جابت العالم كمتطوعة وزوجة لسفير مصر في واشنطن في أواخر الخمسينيات. وآثرت العمل التطوعي والمدني “لخدمة الإنسانية”، وتبلور اهتمامها بتنظيم الأسرة وموانع الحمل، حتى أسست جمعية تنظيم الأسرة لمحافظة القاهرة عام 1964، وساهمت في تأسيس اللجنة المشتركة لتنظيم الأسرة التي جاءت لعالمنا بعد نجاح سلسلة من الندوات التوعوية كان قد نظمها “نادي سيدات القاهرة 9“، في مقدمتها كلمة ألقاها أحمد الشرباصي دكتور في جامعة الأزهر عن الإسلام وتنظيم الأسرة 10. سأحاول التحكم في فضولي قبل طرح تساؤل أخر، عما إذا كان ذلك هو الباب الذي فتحته علينا سيدات المجتمع ورائدات التطوع باسم التوعية، شيخ وقسيس لوقف الزيادة السكانية؟! من المهم إدراك خطورة الدعوة إلى استخدام وسائل منع الحمل مثل اللولب في تلك الفترة 11، أين يكمن التوازن في استخدام نفس اللغة ومحاورة مخاوف “الفئة المستهدفة” الروحانية دون أن يتحول ذلك الاختيار الاستراتيجي – على أحسن تقدير – إلى توجه عام في تناول الزيادة السكانية وموانع الحمل سنوات بعدها.  

يتملكني شعور بالإحباط أثناء تصفحي مذكراتها. بقدر ما بها من معلومات، بكل أسف توقفت طباعتها، ويزداد ميلي لتصديق أن فشلنا في تقفي أثر النسويات المصريات في بحثنا عن سياسات التنظيم يكمن غالبا في أن من سبقننا لم يمررن المعرفة. عليّ الاعتراف بفشلي في قراءة التحركات النسوية خارج ثنائية: نساء يزاولن العمل العام لوفرة وقتهن ورفاهة حياتهن ويشفقن على الفقيرات و ينعمن عليهن بآخر “التحديثات”، وأخريات لجأن إلى المجتمع المدني بعد سنين من النشاط الطلابي. تصنيف غير عادل! يستحوذ على نظرتي للتحركات النسوية في مصر، ولا يشهد بالحق للأفراد المتميزات والقائدات النسويات. أتحدث هنا عن الحركة وليس الأفراد.

ويدفعني افتقار خلفيات التحركات النسوية للتنوع والتعددية إلى التساؤل عن التنظيم النسوي بين النساء فقيرات الوقت والنفوذ والدوائر الإجتماعية في الماضي والآن؟ لماذا ترتبط التحركات النسوية في مصر بمن لها من الوقت متسع؟ أعترف أن تخميني مبني على قراءات متقطعة وعشوائية وغير بحثية، ودليلي الوحيد هو الفجوة المعرفية والميدانية بين الأجيال. أزعم أنه لم يتم نقل الخبرات على نحو قصدي وسياسي وبروح نسوية، فقط عند النظر للحركة النسوية في سياقات أخرى يجمعنا بها تشابهات سياسية واقتصادية واجتماعية. 

في بداية 2020، حاولت بناء مقال تثقيفي حول موانع الحمل من منطلق “الانبساط” وتخيل إذا كان المدخل التوعوي يعول على “اللعب والنغاشة” بدلا من الاعتماد الكلي على التوتر والخوف من حمل غير مرغوب فيه في نشر المعلومات. وعلى الرغم من حماسي لاستكشاف هذا المنحنى باللغة العربية، وفقط لأنها سنة كبيسة، صعب علىّ التخيل ومسحت المسودة. أكتب هذه السطور مختلسة النظر لتفاعلات دارت بين آمال عبد الهادي وهند واصف من خلال مسودة أولية بعنوان “التثقيف حول الصحة الإنجابية والجنسية” بتاريخ 16 أكتوبر 1996 موسومة كمراسلة “عاجلة”. بدأت المسودة مقترحها باسترجاع تاريخ سياسات الصحة دوليًا، فكانت الثمانينيات هي الفترة الزمنية التي تم خلالها الترسيخ للرعاية الصحية الأولية، وشهدت التسعينيات معالجة مسألة السكان بمفهوم أوسع من الديمغرافيا. تشير المسودة إلى جهود بعض المنظمات غير الحكومية في تثقيف المراهقين والمراهقات في ما يتعلق بصحتهم/هن الجنسية والإنجابية داخل الفصول الدراسية، والتي استُخدمت كحجر أساس لطرح إدماج معلومات عن الصحة الإنجابية والجنسية في المناهج الدراسية للمرحلة الإعدادية. قد تبدو هذه الوثيقة عادية وبديهية، لكنها كانت مفاجئة بالنسبة لي. العاملات والعاملون على الحقوق الجنسية والإنجابية في مصر على علم بصعوبة طرح تلك المسألة أو أي محاولة جادة لتنظيم معرفة جنسية. على أي كيان التواصل مع وزارة التربية والتعليم وتوقيع مذكرة تفاهم حتى يتسنى له فقط الدخول إلى المدارس، وهو ما كون انطباعي باستحالة تحقيق ذلك. دارت مناقشة مع بعض الأطباء الشباب 12 في 2018 أفادت بأن محاولاتهم التواصل مع وزارة التربية والتعليم قوبلت بالسخرية لأنه من غير المعقول إضافة أي موضوع جديد إلى المناهج الدراسية، واستطرد الشخص المسئول قائلا “ناقص كمان نتكلم عن التغير المناخي!” في المناهج. 

بالصدفة أيضا سمعت عن ناهد طوبيا من خلال نكش ذاكرة آمال أثناء مقابلتها معنا في بدايات 2020، وقابلتها مرة أخرى في أوراق كثيرة شاركتها آمال معنا وقامت مارينا بنسخها ضوئيا، ضمن محادثات دارت بين ناهد وإحدى منظمات واحدة من الأنشطة التي نظمها مركز أفريقيا الإقليمي للموارد الجنسانية في عام ٢٠٠٣. تقول ناهد:

أعتذر عن افتقاد هذه الورقة للعمق الأكاديمي الكافي لبعض من الحضور، وهو كان اختيار شبه مقصود. بما إنني مؤمنة أن الجنسانية أقرب من أن نقف على بعد فكري وخطابي آمن منها، فقد حاولت البحث عن الجنسانية في السياق الأفريقي. وعليّ الاعتراف بأن النتائج كانت محدودة بشدة. أعتقد أن الكثير منكن على دراية بمحدودية الأدب المنشور[…] فيروس نقص المناعة البشري/إيدز – أو بمعنى أصح الحاجة إلى ممارسات قليلة المخاطر – قد وضع الجنسانية في القلب من صناعة السياسات. أؤكد هنا قبل الاسترسال على خطورة ترادفية “الجنسانية” بـ “الممارسات الجنسية” سواء كانت آمنة أو خطرة. فالأخيرة هي جزء ونتيجة من الأولى. والتفكير على هذا النحو حزين ومدعاة إلى السخرية لنا كأفارقة، أن دُفعنا لمواجهة جنسانياتنا عبر فيروس مميت، يهدد أجيال بأكملها ويعصف باقتصاداتنا الآيلة إلى السقوط. ورغم أن إدراك خطورة فيروس نقص المناعة البشري/إيدز مفروض علينا، إلا إننا لم  نتدارك ذلك في زوايا الجنسانية على نطاق أوسع. 

والطرح هنا هو التفكير في تغيير مدخل الحديث عن الجنس والجنسانية – وأخص هنا المحتوى باللغة العربية – بأن نتوقف عن غزل الخوف والتوتر من الحمل غير المرغوب فيه والجنسانية بشكل عام، والحديث عن موانع الحمل من منطلق “الانبساط”. وتبدو محاضرة ناهد طوبيا ومن قبلها مراسلة آمال وهند كلحظة عرضية في التعامل مع هذه الأفكار، كأنها مبتكرة ولم تغازلها من قبلنا نسويات في نفس المنطقة لم يتمكن من نقل وسرد تاريخهن لنا لأسباب لا أعلمها بعد.  

حقول تجارب 

تتحدث ليلى بسرعة كأنها تلاحق أفكارها أثناء مشاركتهم. أستمتع بالحديث معها، فلديها القدرة على ربط الأمور ببعضها بسلاسة مبهرة. هي من الممولات القلائل غير المكترثات بتنظيم الأسرة ووسائل منع الحمل الحديثة على شاكلتهم الحالية، فهذه الشاكلة – بحسب كلامها – مهِدت الطريق إلى تطبيب أجساد النساء. تتساءل بتهكم، لماذا تلجأ جهات التمويل الأجنبية إلى الاعتماد كليا على وسائل منع الحمل الحديثة؟ تلعب جهات التمويل دورا كبيرا في رسم واقعنا، في تحديد البرامج التي تستحق التمويل وحصرها في برامج تقديم خدمات تحديد النسل والاعتراض على خدمات الإجهاض 13. وأشاركها الموقف، ويستوقفني الغضب تجاه التفنن في تغليف الدعامات بالهرمونات وحشرها في أجسادنا كما جرى العرف، لأن النساء المصريات المغفلات 14 “غير ملتزمات بالحباية اليومية” كما يرانا الممولون المهتمون بكبح الزيادة السكانية والتخلص من جهلنا في آن واحد. بدلاً من تفصيل الوسائل التقليدية لنا حتى لا تعترض بقع الدم يومياتنا، أو حتى الاستثمار في الوسائل التي تستدعي المزيد من المقايضة مع الرجال مثل الواقي الخارجي أو التعقيم الذكري… وسائل لا تتغذى على أمزجتنا وتواطئهم.

 15الأطباء كانوا – ولا زالوا – أشرس أعداء لنا

في بداية السبعينيات، تعاونت جهات عدة، من ضمنها الوكالة الأمريكية للتنمية وپاثفايندر والاتحاد الدولي لتنظيم الوالدية ومجلس السكان الدولي والمساعدة الدولية لتنظيم الأسرة وشركة أ.هـ. روبنسون، لشحن مئات الآلآف من اللوالب العنكبوتية (Dalkon Shield). اكتظت بها علب الأحذية وهي غير معقمة، وشُحنت إلى نساء العالم الثالث ومن ضمنها مصر، بعد أن تم توقيف توزيعها واستخدامها في الولايات المتحدة الأمريكية جراء خسائر جسدية ونفسية فادحة للنساء هناك، تقدم على إثرها الكثير منهن لمقاضاة الشركة المصنعة، ما أدى إلى إفلاسها في تسويات قدرت بملايين الدولارات في السنوات اللاحقة 16، في حين ماتت أخريات. أرشدتنا آمال إلى اللولب العنكبوتي، وكيف قاومته الطبيبات والنسويات في مصر، في حين تعاملت الجهات المانحة مع النساء كفئران تجارب لا يهم تعريفهم بالجهاز القاتل قبل أن يتم تسكينه في أجسادهن. لم أسمع عنه من قبل رغم اهتمامي بالإقبال الضخم على استخدام اللولب في مصر 17، خصوصا بسبب تلحفه بالخرافات . دفعتني هذه الخرافات لتخيل أن منبعها هو موروث أجيال من الأعراض الجانبية التي سببها اللولب العنكبوتي! غير متأكدة لكن أصدق الاحتمال. 

اللولب العنكبوتي هو دراسة حالة محلية من واقعنا لتفسير وفهم “العدالة الإنجابية”. كان من الممكن التعرف عليه هنا، بدلا من عقد مقاربات عن مقصد النسويات الأمريكيات السود لما هي العدالة في الوالدية والإنجاب. فمن خلال محادثات عديدة مع رفيقات وصديقات، أدركت أن إطار “العدالة الاجتماعية” لتناول الحقوق الجنسية والإنجابية كان هو نهج عمل النسويات في الجنوب العالمي 18، فقط لم يستخدمن تعبير “العدالة الإنجابية”، وهو ما أشارت إليه عايدة سيف الدولة وآمال عبد الهادي عند تأملهن كيف تم نقل وترجمة “الحقوق الإنجابية” أثناء التفاوض على مواد برنامج عمل القاهرة.  

جغرافيا

عادة ما تغيظني صديقة وزميلة بهوسي بالذاكرة في كل مرة أسأل فيها عن أصول قرارات عملنا. أضحك كل مرة تنجح فيها في لمح لمعة عينيي عندما يتم وضع “توثيق” أو “تدوين” في أي جملة مفيدة. نسمح للآخرين بإبدالنا بأشخاص مختلفة عندما نترك مساحات صمتنا لخيالهن. على قدر ما قد يبدو الخيال ساحرا في السياقات الفردية، إلا أنه وحده لا يبني حركة. لا وجود لحركة بلا ذاكرة جماعية، وبهذه الروح أشارك  “القاهرة ٩٤”.  

 

Share Button

Footnotes

  1.  Policies to address fertility plateau in Egypt (The Social Research Center, The American University in Cairo, January 2012)

    .

  2.  Written Out: How Sexuality Is Used to Attack Women’s Organizing (Report of the International Gay and Lesbian Human Rights Comission and the Center for Women’s Global Leadership, 2005)  .
  3. يُعرف ذلك بـ “الصيغة المتفق عليها” (agreed language) بمعنى عدم الحاجة إلى مناقشة مصطلح “الحقوق الإنجابية” من بعد مؤتمر القاهرة. ويمكن تجديد الإلتزامات الدولية به في أي محفل اعتمادًا على تمريره في المؤتمر الدولي للسكان والتنمية بالقاهرة في عام ١٩٩٤..
  4.  Thinking Beyond ICPD+10 : Where Should Our Movement Be Going? (11 June 2005) .
  5.  من مقابلة مع ليلى حسيني في ديسمبر ٢٠١٩.
  6.  كل ما يتم شرائه لتجهيز منزل الزوجية..
  7.  From WID to GAD: Conceptual Shifts in Women and Development Discourse (Occasional Paper, United Nations Research Institute for Social Development United Nations Development Programme, 1 February 1995) .
  8.  A Pilgrim Soul: Memoirs, Aziza Shoukry Hussein (P.104).
  9.  نادي سيدات القاهرة  (The Cairo’s Women Club) أسسته النساء الأمريكيات المقيمات في القاهرة وتطور هيكله حتى أصبح منظمة دولية وبعدها محلية عام 1956. أهم أهدافه ثقافية وتتضمن محاضرة أسبوعية وبازار سنوي لدعم العمل التطوعي. رأسته عزيزة حسين في فترات مختلفة كان حصادها 13 عام من القيادة. (المصدر السابق ص44) .
  10.  ibid (P. 208).
  11.  المتطرفون ذبحوا صيدليًا وشقيقه بقنا والسبب..<<اللولب>> (جريدة الجمهورية، 2 يونيو 1991).
  12.  جدليات الكرامة الجسدية (اختيار، أبريل 2018).
  13.  من مقابلة مع ليلى حسيني في ديسمبر ٢٠١٩.
  14.  Planning the Family in Egypt: New Bodies, New Selves (Kamran Asdar Ali, 2002, p34) .
  15.  من مقابلة مع عايدة سيف الدولة في نوفمبر ٢٠١٩.
  16.   Steven Mosher (2009) “Reproductive Health Care,” the “Demographic Imperative,” and the Real Health Needs of Women in the Developing World (Part One), The Linacre Quarterly, 76:1, 25-46

    .

  17.  Long-term contraceptive protection, discontinuation, and switching behavior (Marie Stopes International) .
  18.  لماذا يُعد الإجهاض حق أساسي لتحقيق العدالة الجنسية والإنجابية؟ (تحالف ريسرج، مارس 2019) .