التحرير عملية عنيفة

التحرير عملية عنيفة (PDF) 

نُبذة عن الكاتبة:

شريكة مؤسسة في موقع “مدى مصر”. عملت في مجالات مختلفة، على رأسها “محررة مجتمع”، إذ حاولت توسيع نظرتنا وتعميقها تجاه قضايا الجندر. سأبدأ قريبًا في التدرّب للعمل كمعالجة نفسية. آمل أن أصبح قادرة في غضون سنوات قليلة على العمل مع معالجين/ات مؤمنين/ات إيمانًا تامًا بالنسوية. كما تشمل اهتماماتي كتابة وتحرير موضوعات تتناول القضايا ذاتها. 

لقد مزقتْ النص. أخذتْ ما في المنتصف وجعلتْه البداية، أزالتْ مقدمتي ووضعتْ النهاية في المنتصف. وحذفتْ جزءًا كبيرًا.

ثَمَّة شيء قاسٍ حيال ذلك، فقد أمضيتُ أشهرًا أفكر في هذا النص، ثم أسابيعًا لأكتبه. أجريتُ عدة محادثات حوله، إلى جانب مروري بلحظات من اليأس.

بعد أن قرأت تحريرها بضع مراتٍ، أدركتُ أنه بَاتَ نصًا أفضل؛ بَاتَ مُحَكَمًا وانسيابيًا. فقد كنت أحاول قولَ الكثير في آن، وفي أحيان أخرى اعتقدتُ أنني كنت أقول شيئًا، بينما من الواضح أنني لم أقل الكثير.

نجح النص. أحيانًا أقول أن “فلانة” حررته بشكل رائع، وأحيانًا أنسى.

ثَمَّة شيء قاسٍ حيال ذلك. لكن هل تقل سعادتي بتحريرها لما تحملهُ العملية من قسوة؟ أظُن ذلك (فقد قَبِلتُ إعادة الهيكلة والتلاعب ببعض التفاصيل الصغيرة)؛ إلا أن سعادتي من عدمها لن تحدث فارقًا، فما فَعَلته لن يتغير.  

التعليقات التي تصلني من محرر/ة حول كتابتي هي غالبًا تنويعات على عبارة “لست متأكد/ة مما تقصدين بهذه الفقرة”. في بعض الأحيان لا تكونين متأكدة، أو أنك تلاعبت بالعبارة كثيرًا ولم تعودي تفهمينها جيدا. لذا ليس من المفاجئ رؤية مثل هذا التعليق. وفي محاولة الشرح، تدركين أنها نقطة خلافية، أو تجدينها متماسكة. في أحيانٍ أخرى تكون فقرتك المفضلة في النص. وفي كثير من الأحيان تكون جوهرة، تاج نصِك، ويأتي هذا الشخص ويشير إلى أنها ليست واضحة أو مطنبة.

وبالمثل، أقدم التعليق ذاته كمحررة، كما يصلني ككاتبة. التحرير هو عملي الرئيسي، لا الكتابة. لكنني أعتقد أن جزءًا من مسؤوليتي كمحررة هو أن أكتب بغرض النشر من وقت لآخر، وهذا يعني إخضاع عملي للتحرير. يُحسّن العمل مع محررات مختلفات من تحريري، ويمنحني الفرصة لمواجهة الهشاشة التي ترافق عملية الكتابة، لأخضع لما يمكن اعتباره عملية وحشية أو عنيفة.

تشغلني فكرة أن التحرير عملية عنيفة بطبيعتها، وقد تزايد الأمر بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية. في السابق، ربما كنت أقول إن جزءًا من كونك محررة نسوية هو أن تكوني، أو تحاولي أن تكوني، غير عنيفة. لكن الآن أعتقد أن جزءًا من كونك محررة نسوية يتعلق بمواجهة العنف في التحرير.

بالتفكير في كوني محررة نسوية (ما يتعلق بممارساتي – وبالأحرى تطلعاتي – التحريرية)، أعتقد أن هناك الكثير من التداخل بين التحرير النسوي والكتابة النسوية، فمثلا كيف نستخدم اللغة أو نفكر في الرمزية؟ وسواء فكرت المحررة في نفسها كمرشدة أو لا، فهناك أيضًا تداخل كبير بين أن تكوني عرابة 1 نسوية وأن تكوني محررة نسوية. وأعتقد أن ذلك يرجع لكون المحررة النسوية لا تأخذ النص بشكل منفصل وتغفل الكاتبة، كما أنها لا تعطي الأولوية لمشاعر الكاتبة على الإخلاص لعملية التحرير الصارمة.

لكنني أريد أن أفكر قليلًا فيما يخص التحرير، لأتحدث عن حرفة التحرير نفسها. يأخذني هذا إلى تفاصيل صغيرة – مثل طريقتي في تتبع التغييرات، وكيف أضع علامات صغيرة في جميع النصوص التي أحررها.

أعتقد أن انشغالي بفكرة أن عملية التحرير عنيفة بطبيعتها يرتبط بطريقة ما بالنسوية، لأن وجودي كامرأة في مجتمعات أبوية مختلفة – في المملكة المتحدة وفي مصر – والوعي بذلك هو لمراقبة حتمية الوقوع في العلاقات الاجتماعية العنيفة. علّمتني النسوية كيفيّة التشكيك في ممارسات معيّنة من الفكر والسلوك، لكنّ ذلك لم يدفعني إلى الاعتقاد أنّه بإمكاني ألا أنخدع بالعلاقات الاجتماعية العنيفة، أو أن أتحرر من التواطؤ في استمرارها.

إن اتقاد رغبتي في عدم التواطؤ ليست كافية، كما أن اتقاد وصدق رغبتي في اللاعنف لا يمكن أن تزيل العنف القائم في الصدام الاجتماعي أو في عملية التحرير.

أعتقد أن القبول بوجود عنف حتمي بدلاً من محاولة إنكاره، أو محاولة القيام بتحرير غير عنيف، هو أمر هام. وبالطبع فإن التطلع إلى أن تكوني محررة غير عنيفة أمرٌ جيدٌ، رغم أنه ليس طموحًا قابلاً للتحقيق. مشكلتي هنا لا تكمن في اِستحالته – فمن المهم على المستوى الشخصي والسياسي أن نتطلع إلى أشياء غير ممكنة دائمًا للاقتراب منها أكثر. لكني أعتقد أنه من المهم دائمًا الاعتراف بحتمية الفشل لنصل إلى نتائج أقل عنفًا في نهاية المطاف.

وبكل بساطة، فإن انشغالي بعنف التحرير يأتي من نسويتي. وبالإمكان اعتبار الأمر كذبة وحقيقة معًا. إن طبيعة التطور الفكري والسياسي تعني أنه لا يمكنك أبدًا أن تحلل من أين يأتي أي جزء منك، رغم أننا نفضل خداع أنفسنا بخلاف ذلك. ثم هناك العنصر الشخصي؛ ربما لأن لدي ميلٌ لأن أكون عدوانية دون أن أنتوي ذلك فعلًا، ولأنني أفكر في مسألة العنف حتى عندما لا تكون الهدف.

على مستوى آخر، لا علاقة لطريقتي في التحرير بما أسميته “تطوري الفكري والسياسي”، لكنها متعلقة كليًا بأختي. عاشت ليلى حياتها متحملة ألمًا ساحقًا. ومن الأشياء الأساسية التي تعلمتها خلال الوقت الذي قضيته معها، أنه من المستحيل رؤية أو فهم أي شخص آخر ومعاناته، وأننا لا نفهم الآخرين من خلال التفكير في أننا نستطيع وضع أنفسنا مكانهم، بل بالاعتراف بأننا لا نستطيع.

تكمن المفارقة في أنه من خلال الاعتراف بحتمية الفشل، يمكننا أن نفشل بشكل أقل. (أتمنى بالطبع لو أنني تعلمت هذا الدرس سابقًا).

تأملين في النهاية كمحررة أن تجعلي النص نسخة أفضل من أصله. إنه مسعى مثالي ومتعجرف بشكل استثنائي. لأنني إن اعتقدتُ أنه من خلال محاولتي بشكل حثيث ألا أكون عنيفة أثناء انخراطي في هذا المسعى الغريب، فسوف أكون قد هدهدتُ نفسي بشعور زائف بالأمان، ولن أبصر العنف الذي ارتكبه.

نحن نعلم أن السلطة تكمن في جميع العلاقات الاجتماعية. نحن نعلم أن علاقات السلطة وعنف الصدام الاجتماعي تتشكل من خلال التنظيم الاجتماعي للسلطة، وأن الطبقة، والنوع، والعرق والجنس هي عناصر واضحة. هناك أيضًا تفاصيل محددة: في حالتي، قد أتعامل مع كاتبة لدي السلطة لنشر عملها أو رفضه، وبالنسبة لبعض الكتابات قد يكون هذا أمرًا جللًا. فللمحررة خبرتها وللكاتبات خبرتهن. وهناك مجموعة معقدة من علاقات السلطة التي يجب أن أكون منتبهة لها عند التعامل مع كاتبة، وسأخدع نفسي إذا اعتقدت أن بإمكاني أن أحدد بشكل كامل ودقيق علاقة السلطة، لأنه ليس بإمكاني إلا أن أذكرها جزئيًا – مرة أخرى، حتمية الفشل – وكذلك ربما لا أستطيع أن أسمي أو أرى العنف الذي يكمن في هذا الصدام الاجتماعي.

عندما تدركين أن ما تقومين به ينطوي على العنف بشكل حتمي، فأنتِ تتقدمين بحذر شديد في عملية التحرير، حتى وإن طرحتي أو اقترحتي تغييرات جذرية. هذا يعني بالنسبة لي أن جزءًا أساسيًا من عملية تحرير النص ترتبط بالتروي قبل بدء العمل، وأخذ وقت لقراءته وفهمه، لمواجهته بشروطه الخاصة.

ثمة شيء مربكٌ هنا بالنسبة لي، وهو التذكير بعدم الثقة دائمًا بحكمي الأول. أعتقد أن أحد الأشياء الصعبة حول التحرير أنكِ يجب أن تثقي وتشككي بنفسك على حد سواء (لكن الآن عندما أفكر في الأمر، ربما هذا صحيح في كل شيء، وربما أعتقد أنه ينطبق بشكل خاص على التحرير فقط، لأن ذلك هو ما أقوم به).

إذا كان جزء من دورك كمحررة هو جعل النص شكلًا أفضل من أصله، فالشيء الوحيد الذي تحتاجين إليه هو تمييز الإطناب. قد لا تستخدمين كلمة “إطناب” عندما تقترحين على الكاتبة حذف بعض الأشياء، لكنك قد تقولين أنه يجب حذف ما هو زائدٌ عن الحاجة لأغراض النص. واعتمادًا على طبيعة النص، قد يكون من السهل التعرف على ما هو غير ضروري. لكن في بعض الأحيان لا يكون الأمر سهلًا. لا يعني حذف ما هو زائد عن الحاجة في كثير من الأحيان ضمان أن كل جزء من النص فعالٌ أو أنه لا يوجد تكرار. إنها مسألة العثور على ما هو زائد عن الحاجة وفقًا لمنطق النص، هذا النص تحديدًا ولا غيره. هذا منطق يجب عليك إيجاده حتى لو لم توضحيه، وهو أمر قد لا تكون الكاتبة قد فصّلتهُ بوضوح. وغالبًا ما يختلف ما فصّلتهُ الكاتبة عما هو موجود بالفعل.

لذا، في محاولة العثور على المنطق الداخلي لعالم النص، عادةً ما أعيد قراءته عدة مرات (أتحدث عن تحرير المقالات والأبحاث وليس الكتب). لدي القليل من الاختلاجات المتعلقة بإزالة بعض الحطام حتى أتمكن من مواجهة نص، والتي قد تعتبر غير مهمة على مستوى ما. هذا يعني أنه قبل القراءة الثانية أو الثالثة، أصحح الأخطاء المطبعية الصغيرة التي ربما تشتتني. وهذا يعني أنني لا أدون ملاحظات أو أطرح أسئلتي حتى الآن – أنا بحاجة إلى أخذ الوقت الكافي للاستكشاف أولًا – لكن الجهد المبذول لعدم نسيان ملاحظاتي سيصرفني عن القراءة المفتوحة لفهم النص ليس فقط على ما هو عليه، لكن لما يمكن أن يصبح عليه. في بعض الأحيان، تحتاجين أيضًا إلى التأني جيدا للعثور على صوت الكاتبة؛ والذي لا يكون دائمًا في المكان الذي اعتقدت الكاتبة أنه فيه. بالنسبة لي، هذا يعني أنني أضع علامة عند النقطة التي لديّ ملاحظات حولها لأتمكن من تذكرها لاحقًا، وهذا يمكّنني من تجاوزها في تلك اللحظة ومحاولة تحقيق قراءة متحررة. أساسًا، كمحررة، أريد أن أجعل النص شكلًا أفضل من أصله، ولأجهز نفسي فإنني أقرأ بهدوء شديد، لتهدئة أفكاري الخاصة أولًا.

يكون الأمر سلسًا عندما تقبل الكاتبة جميع اقتراحاتك. وهو أمرٌ مرضٍ كذلك، لكنه مخيب للآمال بعض الشيء. هناك كاتبات عنيدات ويرفضن التغييرات دون إعطائكِ أسبابًا. ثم هناك كاتبات يخبرنكِ لمَ لا يقبلن باقتراح معين أو يعطينك اقتراحًا آخر. لكنني أميل إلى الاعتقاد بأنه عندما تتحدث وتستجيب الكاتبة، فإنكِ ستحصلين في نهاية المطاف على نصٍ أفضل، لم يكن بمقدور الكاتبة أو المحررة إنتاجه وحدها. وفي بعض الأحيان، هناك الكثير من المفاوضات التي تجعلني أتوق إلى الكاتبة الطيعة. أستخدم كلمة “الطيعة” بشكل متعمد، كطريقة لاستدعاء حجج فوكو حول إدارة السلطة التأديبية، التي تنتج مواضيعًا وأجسامًا طيعة. لكنها طريقة لتذكير نفسي بأن هذا ليس حقًا ما أريده.

في وقت ما كان التزامي بالمساءلة والشفافية يعني الالتزام بزر تعقب التغييرات في مايكروسوفت. اعتقدت أن احترامي للكاتبات وحرفيتهن يعني أنه من حقهن رؤية كل تغيير مظلل. الآن أفضل عدم استخدام زر تعقب التغييرات، وبالطبع إذا فضلت الكاتبة ذلك سأبذل قصارى جهدي لاستيعاب الأمر. نظرًا لأن تعقب التغييرات يشير إلى كل تغيير، فتكون هناك خطوط في كل مكان، وينتهي بك الأمر إلى نص يبدو كما لو أنه تم تشويهه. يصبح ورقة مزدحمة للغاية، وبالتالي يصعب على الكاتبة أن تلاحظ وتركز على التغييرات الرئيسية. ويذكرنا ذلك بطبيعة الحال بنص قامت المعلمة بتصحيحه. لكن الكاتبة ليست طالبة، ولا المحررة معلمة – نحن متعاونات على الرغم من كونه تعاونًا غريبًا.

وددت حقًا لو تمكنت كلتانا من وضع “الأنا” جانبًا، وأعتقد أن إرجاع النص إلى كاتبته بعد تصحيح كل أخطائه هو دعوة لخروج الأنا بقوة كاملة. وبالأنا ربما أعني غطرستنا وريبتنا. وبالعودة إلى مسألة العنف، لأنني أعرف أن هناك شيئًا عنيفًا في عملية التحرير، وأن هناك شيئًا هشًا في الكاتبة التي تعطيني نصًا – نصها – لإخضاعه لتلك العملية العنيفة، فإن المشهد مهيأ لظهور الأنا. لذا، أشعر بالمسؤولية كمحررة -كمتعاونة مُنحت السلطة والمسؤولية للقيام بشيء ينطوي على العنف – لدعوة الأنا للبقاء هادئة إلى أقصى حد ممكن حتى تتمكن كلتانا من مواجهة بعضنا في النص بقدر الإمكان، كي نجد معًا نصًا أفضل.

 مُثقلة بالهشاشة

Share Button

Footnotes

    • يأتي استخدام “عرابة نسوية” كترجمة إلى “Feminist Mentor” لما تحمله دلالة الكلمة على “الرعاية”.  

    – المحررات

    .