العودة إلى البيت


العودة إلى البيت (PDF)

نبذة عن الكاتبة:

متمسكة بحاجات قليلة زي إيماني بقدرة «الكلمات» على تشكيل معرفة شخصية وسياسية بتخلي الحياة والواقع أقل عتمة، والتمشيات الطويلة في شوارع أعرفها أو ماعرفهاش، وأملي في احتمالية إن غدًا يومٌ أفضل لسكان الكوكب.

البيت

عندما أفكر في النسوية، كثيرًا ما أفكر في «البيوت» بمعناها المادي الملموس، وأيضًا بمعناها في المجاز؛ ما تحمله الكلمة من دفء يصف شعورًا أو انتماءً ما، أو حنينًا لانتماء. كان تركي لمنزل عائلتي خطوة التمرد الأولى التي اتخذتها في سبيل أن أتحرر كفتاة تنتظر بداية حياة تشبهها؛ وبالفعل كانت بداية لأكون الشخص الذي أنا عليه الآن. وبعد مرور وقت كبير، تعرضتُ لفرص ومساحات خارج حدود مدينتي الأولى الصغيرة. ما لم أدركه وقتها هو أنني لم أنتقل فقط من منزل والدتي، بل رفضته، ورفضت كل ما يتعلق بالمنزل والعائلة؛ شكل العائلة الذي عرفته، وأي شكل آخر بديل له، ورفضت قيود نشأتي.   

أجلس الآن بعد مرور ما يقرب من سبع سنوات على اللحظة التي خرجت فيها تدريجيًا من منزلي الأول، الذي احتوى سنوات عزلتي في بيتٍ طيب خلقته أمي لي ولأخوتي لكي نكون «أحسن ناس في الدنيا»، كما اعتادت أن تقول. أمي امرأة جميلة جدًا وأم قوية، لا تحب التحدث كثيرًا عما يؤلمها، تحمل مسؤولية منزل، وثلاثة أطفال، وأمها المسنة، وآلام الحياة على عاتقها، دون رجل، ودون مصدر دخلٍ ثابت. ليس لديها سوانا، ونفسها، والكثير مما تريد إثباته كي لا تشعر بأنها فشلت في تربيتنا.  

بدايةً من فترة مراهقتي، التي أردت فيها اكتشاف الحياة، حتى صرت شابة في منتصف العشرينيات، تعرضت باختياري وبالصدفة للكثير من الجمال والبهجة والحب، وكثير من الفقد والألم والقهر والغضب على النطاق الشخصي والسياسي رغمًا عني أيضًا. ما اختلف في إدراكي مؤخًرا، هو تلك اللحظة التي أوجعني صدري فيها عندما وعيت بأنني رفضتُ، بقسوةٍ، أمي  لفترة كبيرة من حياتي؛ رفضتها لكي أكون أنا، رفضتها دون أن أعي حبي لها، وإعجابي بها وبحياتها، والأمان الذي أشعر به حولها. فقدنا أنا وأمي وأخوتي منزلنا الذي شهد سنوات من حياتنا لمدة لا تقل عن 18 عامًا، وفقدت معه أمي حبيبًا/شريكًا أخيرًا، ولاحقًا فقدتُ أنا منزلي الذي شهد سنوات حياتي الأولى كفرد مستقل، ومعه فقدت حبيبة/شريكة، ومن مروا على منزلي من أصدقاء طاب قلبي بهم، لكنني لم أشفَ من مرارة سوء الاختيار لتتغير بهذا حياتي كما أعرفها.

عائلتي من النسويات

أمي علمتني الحنيّة وما يتطلب لكي أتحايل على الحياة حتى أعيش بعضًٍا من الراحة، وأتمسك بما أريد حتى لو لم أصرح بهذا، أمي جعلت -بدون أن تعرف وبدون أن اشارك معها– هضم ما قالته وكتبته أمهاتي النسويات سلسًا. أمي جعلتني نسوية.

لا أشعر بالغرابة في تعريف مفضلاتي من الكاتبات والناشطات النسويات بأمهاتي، فهن أنقذن حياتي حرفيًا ومنحنني بيتًا دائمًا، بيتًا تتكون أرضيته من الأسئلة، وينفتح سقفه إلى السماء، ويملأه الدعم والحب والتعافي من القهر والمحي وآلام المعيشة في مجتمعات تريد السيطرة على النساء، بأنظمتها وقوانينها وعنفها وتمسكها بتصور وحيد عن النساء، وصورة واحدة مغايرة للعلاقات، وإطار واحد للمعيشة لا يسع اختلافاتنا، بيتنا النسوي مليء بالشقوق في حيطانه الصلبة مثلنا تمامًا كنساء.

أمهاتي من النسويات صنعن من رغبتي في معيشة حياة أختارها واقعًا من الممكن حدوثه، وليس فقط رغبةً غير ناضجة، بالرغم من كل العقبات، وبموازاتها.

وجدنني ووجدتهن، رفيقاتي النسويات، اللاتي جمعني بهن إيماننا النسوي، وطموحاتنا المتواضعة في عالم أفضل، ووجعنا وغضبنا وشغفنا. أفراد عائلتي من النسويات موجودات بأشكال مختلفة، منهن من ينخرطن في بناء واستمرارية حركة اجتماعية وسياسية غير راكدة، ومنهن من يستضفن حفلات ليلية لنساء في منازلهن، ومنهن من ينعزلن عن كل المجتمعات، لكنهن حينما يستطعن، يشكلن فرقًا فعلًا، حتى لو بسيطًا.   

عائلتي من النسويات يجرى دمها فيّ، بدايةً بكلماتهن المسطورة في الكتب أو في فضاء الإنترنت الواسع، لتصير شحمًا ولحمًا، وتتمثل في رفيقات عرفتهن لاحقًا انخرطن في العمل النسوي بأشكاله المتنوعة.

النسوية كفعل وحيد

يرافق النسوية شيء ما من الوحدة، فنتيجةً لتشكل الوعي عند كل منا، نما بداخلنا نوع ما من العزلة عن المجتمع وعادةً عن عائلاتنا الأصلية نفسها، حتى يسعنا أن نكبر. ترتبط محاولاتنا لأن نكون أنفسنا فعلًا بالعزلة وبالقوقعات الاجتماعية، ربما ذلك لأن اختياراتنا ما تزال غير مألوفة لمن حولنا.

أرى أن كل شيء في حياتي مرتبط بالنسوية؛ عملي المستند إلى تلك الأيدولوجية، ودائرتي الاجتماعية، وكوني امرأة أولًا، ومثلية ثانيًا. إذا فرغت حياتي من النسوية، فقدت بوصلتي وصرت تائهة.

رافق النسوية شعور بالوحدة منذ بدء تعرفي على الخطاب النسوي المألوف في مصر، الذي لم أجده يمثلني كما أنا؛ لم أجد لذاتي وهوياتي المختلفة مكانًا داخله، تختلف تجربتي عن تجربة نسويات كثيرات ممن قرأت لهن وكن مرجعي الأول لرؤية الدنيا والمجتمع من موقعي كأنثى مختلفة؛ مرجعي الذي يدلني على أن لدي اختيارات مختلفة عن المحددة لي مسبقًا. ترتب على ذلك أنني تعلمت الجزء الأكبر من نسويتي من نسويات لا يتحدثن لغتي الأم، ولا ينتمين لجيلي، ولم يعملن في السياق الذي أعيش فيه؛ هن كاتبات وشاعرات نسويات ملونات وسوداوات، عاشت أغلبهن في أمريكا كمهاجرات. اختلفت وتشابهت معاناتهن أمام سلطوية لون البشرة الأبيض، وسلطة اللغة الإنجليزية، وسلطة المجتمع المُشكَّل فقط ليستوعب العلاقات والشراكات العاطفية والجنسية المغايرة، وسلطة المجتمعات الأبوية. نسويتهن كانت الأقرب إلي، لكنني حتى الآن كنسوية في منتصف عشرينيايها، في عام 2018 بمصر، لم اقرأ عن صراعاتي بلغتي الأم، مع أنني أعرف كيف عاشت نسويات في سياقات وبلاد مختلفة وكيف نجين وربما كيف انهزمن. لا أعرف احيانًا من أين ابدأ وماذا يعني أن أكون امرأة مثلية أو نسوية في بلد ظالم وقبيح ومشوه سياسيًا. قلة/انعدام توثيق تجارب نساء يشبهنني من موطني يجعلني أشعر بقلة الحيلة نوعًا ما، ويشعرني هذا بشيء من الوحدة، وبأن هناك نصوصًا لم تكتبني، وتاريخًا لم يشملني، وشاشات سينما لم تعرضني، ومحطات راديو لم تذع صوت حياواتنا كنساء.

لكل طريق كآبته

أجدني أواجه أنا ورفيقات لي سؤالًا يثقلنا؛ سؤال يرتبط بقيمتنا كبشر، أي بدون عملنا في النشاط النسوي والحقوقي. بالطبع العمل والاستثمار في إحدى حركات التغيير هو شيء مرهق، وبما أن عملنا مقترن بحياتنا الشخصية، أصبحت العودة عن ذلك الاختيار تبدو أمرًا مستحيلًا؛ كيف أتراجع عن شغف وإيمان استثمرت أيامي فيه، ولا يمكن تحديده بساعات عمل. ماذا نفعل بإنهاكنا العاطفي كنسويات؟

في دائرتي الاجتماعية، تختفي الفروقات والامتيازات الطبقية في ظل تشابكنا كسيدات «متحررات» ذوات توجهات جنسية غير مغايرة، وناقدات يتبنين آراءً سياسية شبة موحدة، ما دمنا لا نركز في تلك الفروقات كثيرًا. لكن مع الوقت، وفي ظل غياب قيمة ما نقدمه، تذوب تلك الأشياء التي توحدنا، لتواجه من لا تتمتع منا بامتيازات العيش مخاطر عديدة. تزداد قسوة الواقع مع قلة جودة التعليم الذي تلقاه بعض منا، وقلة فرصنا خارج البديل غير الآمن وغير الدائم الذي خلقناه، وربما لا نعرف شكلًا للحياة خارجه (كمجموعات نسوية وحقوقية).

أنا الآن، جالسة في غرفة محاطة بوحوش كآبتي التي وُطِّدت علاقتهم بي فأصبحوا جزءًا من حياتي، أشعر بهم عند استيقاظي من النوم، وعند عودتي له، وما بينهما؛ أولهما وحش الخراب الاقتصادي في بلد يأخذ مننا قدرتنا على التأقلم مع الحياة، واحتياجانا لتدبير أمورنا المادية كطبقة متوسطة؛ ووحش السلطة وبطشها، وانتهاكات الحكومة الحالية والسابقة  التي تطبق على أنفاسنا (نحن الجيل الذي أراد أن يعيش بقدرٍ من الحرية)؛ ووحش الإحباط بعدما ذقنا جمال اقتراب التغيير بعد ثورات سلبت مننا الكثير؛ ووحش كوني امرأة تحاول رجلاها أن تقوى على حملها، رغم صعوبة الخيارات المتاحة أمامها في بلد وفي عالم قررا لنا خيارات مسبقة، إذا خرجنا عنها شقينا (تشقى النساء في كل الأحوال)؛ ووحش هشاشة الهوية المثلية؛ ووحش الفزع والاختناق وعدم القدرة على التنفس في يوم يبدو عاديًا جدًا.

العودة إلى البيت

تخف حدة تلك الكآبة والوحدة عندي بأفعال رفضتها مسبقًا، ثم اخترتها حاليًا بما يناسبني.

لاحظت مؤخرًا أنني لا أهرب من البيت، بل أسعى لخلق مساحات آمنة ولتقوية علاقتي بعائلتي الأولى التي لا تعرف عني الكثير لخوفي من أن يرفضوني، لكنني أحاول أن أكون بقربهم بما يبدو مناسبًا الآن؛ وأسعى للاستثمار في عائلتي البديلة وفي بيوتنا، بدايةً من أماكن العمل إلى المنازل الحميمية التي تضمنا ومساحات النشاط السياسي، إلى رغبتنا ومحاولاتنا لأن نكون طيّبات وداعمات.

قرأت ذات مرةٍ في نص لغلوريا آنزالدوا، تقول فيه إن إحدى طالباتها في جامعة نيوإنغلاند ظنت أن «الهوموفوبيا» هو الخوف من العودة إلى البيت/المنزل/الوطن بعد الإقامة بعيدًا عنه1. ظلت العبارة عالقة في ذاكرتي تلمس وترًا ما في قلبي؛ قرأتها منذ سنوات وأنا بعيدة عن بيت أمي، خائفة من أن تعرفني كما أنا، فتلفظني وأصبح خائفةً أنا الأخرى من العودة إلى البيت بعد إقامتي بعيدًا عنه.

 مُثقلة بالهشاشة

Share Button

Footnotes

  1.  

    • Movimientos de rebeldía y las culturas que traicionan حركات الاحتجاج والتمرد والثقافات الخائنة, Borderlands/La Frontera: The New Mestiza,  ©1987, 1999 Aunt Lute Books, San Fransisco, CA.

     

    .