حريم الجنرال

سهيلة محمد

حريم الجنرال.. و أولاده! (PDF)

في أغسطس الماضي، توجهت من القاهرة إلى دهب (سيناء)،  بصحبة رفقة من الأصدقاء . توقف الأتوبيس في كمين، “عيون موسى،” كالمعتاد، للكشف عن الهويات الشخصية، لبعض المشتبه بهم، وفقًا للحدس الأمني، “الفطري،” لضباط الكمين. مر ذلك، كإجراء روتيني طبيعي.  أخذنا ننتظر، في تململ، حتى  نادى اسمي أحد الضباط، ومعي فتاتان أخريان، قائلا: “قربوا هنا. متخافوش، أنا مبعضش. إنتوا أهلكوا عارفين إنكوا مسافرين؟” أخبرته أني لم أفهم السؤال. قال، موضحًا، إنه لا يستبعد أن أهلنا حرروا ضدنا محاضر “تغيب،” كما حدث مع فتاة الاسكندرية1، التي وجدها أهلها،  “بتسكر مع شاب في شرم الشيخ” -على حد تعبيره. طلب الرجل، في صيغة آمرة، ولكن بود، كأخ أكبر، أن نتصل بأهالينا، ليتأكد من علمهم بسفرنا. أخبرته أن ما يفعله غير قانوني، لأننا فوق السن القانوني( 21 سنة). فاستخدم لهجة أكثر  لطفًا، قائلًا أنه، فقط، “عايز يطمن علينا،” لأننا “زي إخواته.” لم يعتقنا الضابط، إلا بعد أن استجابت إحدى البنات، واتصلت بوالدها أمامه، ليدعنا نمر.

كتبت الحادثة على صفحتى الشخصية، على فيسبوك؛  ففوجئت بكم الرسائل من فتيات، تعرضن لنفس الموقف، أو مواقف مشابهة، وصلت بإحداهن إلى أن منعت من السفر، فعليًا، وأعيدت أدراجها إلى القاهرة! أتعجب،  هذه المرة، أن تعامل الدولة، ورجالها مع الفتيات، خرج عن كونه رد فعل مجتمعي، يتمثل فى تحرشات، نظرات احتقار، أو تلقيح الكلام على البنات، اللاتي يسافرن وحدهن، والذي اعتدناه، وابتلعناه، على مضض، إلى أن وصل لأفعال، تعلو في تطبيقها، على أي قانون، هي أشبه بأعراف قبلية صارمة، أصبحت الدولة لا تتحرج  في ممارستها، “عيني عينك،” بدافع حماية البنات، والحفاظ على تماسك الأسرة المصرية.

ترك الموقف، داخلي، غضبًا وقتيًا عارمًا، ومرارة مستمرة حتى هذه اللحظة. شعرت بالأسف لسنوات مراهقتي، التي قضيتها في التغلب على التمييز والعنف، داخل الأسرة. استحضرت صور محاولاتي الناشئة، التي تراوحت بين التحايل والكذب، الابتزاز العاطفي، الصراخ، التهديد بإيذاء الذات، الود المصطنع، توسيط أفراد طيبين من العائلة، إلى الضرب، مباشرة “تحت الحزام،” تطلعًا لغاية واحدة، وهي “إني أسافر القاهرة، يوم واحد، من غير بيات، عشان هدف تعليمي مش فسحة.”

أتسائل، هل أتعرض للعنف المنزلي خارج المنزل، أيضا؟ هل يمكن ذلك؟ اختلطت علي المفاهيم، والأفكار، فقررت أن أكون أقل غضبًا نحو العالم، مما أنا طوال الوقت، واستمتع بالرحلة، والرفقة وأؤجل التفكير، حتى تأتي الأفكار أكثر ترتيبا وقوة.

سي السيد الجنرال!

رأى باحثون ومنظرون، أنه في الأيديولوجيات القومية، تشبه الدولة عائلة كبيرة، تمارس إنتاج نفس الأطر الجندرية للعائلة العادية2. وباعتبار مصر، على مشارف بناء نموذج قومي، يحاول الرئيس تصديره، في أكثر من موقع، سيتطرق لهم المقال لاحقا، تبدو الدولة والقائمون عليها، أشبه بعائلة متفرعة، شديدة الأبوية، حيث الرجال هم، فقط، صانعو القرار، وهم من يقومون بتحديد أولويات قضايا النساء، ومكتسباتهن، بشكل يضمن بقاءهم كذكور، مهيمنين في المنظومة.

يتعامل القائد العسكري مع نساء مصر، كتعامل” ذكر” مصري شهم مع أهل بيته. يؤمن هذا الرجل بعبارات تقليدية، صدأت من تكرارها، فى غير موضعها، مثل “المرأة، نواة المجتمع، والنصف الحلو، والنصف، الذي  بعمل على تنشئة النصف الآخر، فهي الأم، والأخت، والجدة، والزوجة … إلخ.” في مقابل ذلك، تُضمن لها حقوقها، ك”ست،” من وجهة نظره، ونظر المجتمع. فهو لا يضرب زوجته، أو يقصّر في الإنفاق، (إلا إذا قصّرت في أداء واجباتها، كزوجة)، ويستشيرها، أحيانا، في بعض مشاكله، مع زملائه في العمل، باعتبارها زوجة، وشريكة، وإيمانًا بقدرات النساء البيولوجية، على فهم أصناف البشر، واتسامهن بالدهاء المطلق. المرأة، في نظره، هي “قارورة،” غير كاملة الأهلية، تحتاج، دائما، للرعاية، لأنها الأضعف، وللمجاملة، وإن كانت كذبًا، “عشان المركب تمشى،” وللترفق، والصبر إذا حرقت الطعام، أو رفعت صوتها غاضبة، في أوقات الدورة العصيبة. يلعب الذكر، في هذا النظام، دورًا حمائيًا، و يغار على إناثه، وأجساد إناثه، باعتبارهن جزءًا من عرضه، وبقائه؛ لأن أجساد نساء العائلة، هي الهدف الأوّلى، دائما، بالحماية من قبل رجالها.

من أين يستمد النظام أبويته؟

جاءت الكثير من ردود أفعال، من الشعب، تعليقًا، فقط، على “فحولة” السيد الرئيس، نظرًا لأنه “العسكري،” الذي أطاح بنظام الإخوان؛ فاختزل البعض رأيهم في السيسي، في أنه “رجل،” أو “دكر.” وأبدت الكثيرات، من النساء، على منصات مختلفة افتتانهن بالرجل الأول، مستخدمات مصطلحات توصيفية محافظة -مراعاة لكونهن نساء- كوصفه “بالصادق الأمين،” “ده مش إنسان عادي، ده ملاك،  ده حاجة فوق البشر.” وبالطبع، بالإضافة للمقال الشهير “يا سيسي.. إنت تغمز بعينك بس،” الذي أثار ضجة واسعة، حيث لم تستطع كاتبة المقال إخفاء تأثرها التام بالرجل، فكتبت عنه “هذا رجل يعشقه المصريون.. ولو عايز يقفل الأربع زوجات… إحنا تحت الطلب ولو عايزنا ملك يمين مانغلاش عليه والله.”

أدرك السيسي، مبكرًا، أن الافتتان الشعبى به، تجاوز مرحلة الاعجاب بضربته السياسية لطرف يرفض الناس وجوده، إلى الافتتان الحميمي بشخصه, فعمل على تعزيز رجوليته، كقائد، وحامٍ لحمى الدولة، عن طريق تكوين جيش من النساء المؤيدات، ليس فقط  باعتبارهن أصواتًا انتخابية، يرغب في استغلالها سياسيًا، بل باعتبارهن جزءًا من الحرملك خاصته. فهو يمتلك هيمنة مطلقة، وسلطة  لا يمكن منافستها، حتى من قبل أكثر رجال حاشيته/بلده قوة وجاذبية، حيث صرح عن خوفه  من أن يغار منه الرجال، قائلًا فى مؤتمر انتخابي: “هيبقى فى مشكلة بعد كدا مع الرجالة في البيت3.”

وبالتالي، أصبحت المرأة، هي المستهدف الأهم، في خطابات الرئيس، حيث ناشدها، وغازلها، ووعد بحمايتها، باعتبارها جزءًا من ممتلكاته الثمينة، التي حرص على تقديرها، أفضل تقدير، فاقتصر خطابه على دور النساء في المجال الخاص، حيث أكد الرئيس على دور المرأة غير العاملة، وناشد المرأة أن ترشّد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنزل، حتى تقوم مصر و “تبقى قد الدنيا،” معتبرًا أن دور المرأة الطبيعي، هو داخل المنزل، ومكرسًا لدورها المجتمعي كأم، وربة أسرة .لم تأتي كلمات الرئيس لنسائه نتاج عشوائية، أو كجزء من عبثية  النظام. فبملاحظة الخط الزمني لتصريحات السيسي، يتضح تحول جذري، فى وتيرة خطابه للنساء، قبل تنصيبه رئيسًا للبلاد، عندما أيد كشوف العذرية، في مقابلة4 مع منظمة العفو الدولية، حيث رأى أن كشوف العذرية استخدمت لحماية الفتيات من الاغتصاب، وحماية جنود الجيش من اتهامهم باغتصاب هؤلاء الفتيات. وأيضا،  تصريحه بشأن المتحدث العسكري، عندما قال:  “ده أحمد علي، جاذب جدا للستات5.” فأصبح خطابه أكثر تقديرًا واحترامًا “للمرأة المصرية6،”  ليناسب دوره الأبوي الجديد، ومن اجل ان يحافظ على جيوشه النسائية الداعمة لبقائه. حيث صرح بأنه، يحب المرأة المصرية،  وأدان  الانتهاكات التي وقعت ضد النساء فى احتفالات تنصيبه، رئيسا و قدم بوكيه ورد لفتاة تم اغتصابها مؤكدًا، “أن بنات مصر، هم بناته.”

لم يكتفي الرئيس بذلك، لدعم نسائه، وتعزيز صورته الحمائية، كرجل العائلة الأول، بل وصل الأمر لتقديم الدولة خدمة القيد العائلي على موقع وزارة الداخلية المصرية، بغرض الكشف عن تعدد الزوجات، حيث تقوم الزوجة المنكوبة، بإدخال بيانات زوجها المشكوك فى أمره، للتأكد ما إذا كان متزوجًا بأخرى، أم لا،  فى مقابل 20 جنيها شاملة مصاريف تحويل البريد. ثم دعوته الأخيرة، في احتفالات عيد الشرطة، لإصدار قانون، يمنع وقوع الطلاق إلا بوجود مأذون، التى لا يدري أحد مدى جديتها من هزلها، وهل يمكن فعلا، أن نمتلك قانونا، ينظم حالات الطلاق الشفهي، أو أنها مجرد إطلالة براقة، يؤكد بها الرئيس دعمه للمرأة المصرية المجروحة، على حد تعبيره!

رغم أن النموذج الحمائي يمكن أن يجلب بعض المكاسب الوقتية للنساء، إلا أنه خطر للغاية. .المشكلة في ذلك النموذج أنه أقل فجاجة، وصعب الملاحظة مقارنة بالنموذج القمعي، القائم على العنف. فالأب الذي يحبس ابنته في المنزل، ويمنعها من الخروج، أو الحركة، مع الإحسان إليها، والرفق بها، يصبح أكثر قبولًا من الذي يحبس ابنته، و يوسعها ضربًا وتحطيمًا، لتقويم سلوكها. مع أن التصرف واحد، و الهدف منه هو هو.  بالمثل، في حالة النظام الأبوي الحاكم. فهو يقوم بنفس الدور الحمائي، تجاه النساء. فيقمعهن بلطف، ويحرمهن من حقهن في اتخاذ القرار، وحرية الحركة، بدافع الخوف والحماية. وفي المقابل، يمكن أن تكتسب النساء بعض المكاسب، قصيرة المدى، بنفس الدافع وهو المحافظة على عرضهن، الذي هو عرض الدولة، أو العائلة الكبيرة،  كقوانين التحرش الجنسي .الذكر، فى هذا النموذج، هو من يحدد أطر حركة النساء، ويحدد أولويات قضاياهن، بحيث تظل النساء متحركًا سلبيًا يستحق الحماية.

المشكلة الثانية، هي أن النموذج الحمائي، يمكن ممارسته على جميع النساء، مهما كانت طبقاتهن الاجتماعية، أو مستوياتهن التعليمية والاقتصادية. فالمرأة أينما كانت، تظل جزءًا ثمينًا من ممتلكات الأسرة الكبيرة، يجب الحفاظ عليه وحمايته. يتضح ذلك فى اعتذار السيسي لأمير قطر، بسبب إهانة الإعلام المصري، لوالدته، الشيخة موزة. في حين أن البديهي، أن يعتذر للشيخة موزة نفسها، باعتبارها المتضرر الأول من التجريس الإعلامي الحاصل. وأكد السيسي أنه لا يقبل هذه الإساءات، ليس فقط لسيدة من قطر، بل لأي سيدة فى العالم.

الذكورية و القومية: من أجل هيمنة أفضل

أبوية الدولة (العائلة)، والممارسات الذكورية لرجالها، ليست هي العامل الأوحد المغذي لهيمنة النظام الحاكم، وتشويهه لحقوق النساء وقضاياهن. بل جاء نموذج قومي، غير واضح المعالم، ليزيد الطين بلة، ويسير معها يدًا بيد، لتعزيز قبضة الدولة على نسائها. واستنادًا إلى تعريف ماكس فيبر7 للقوميات، فإن القومية تنبني على تكوين دولة statehood، وأمة nationhood. في محاولة لتطبيق ذلك على ما يفعل السيسي، فإن السيسي يقوم ببناء قومية هلامية، في حين أن الدولة نفسها تنهار. يحاول الرئيس حشد الشعب حول مشاريع قومية كبرى، كالعاصمة الإدارية الجديدة, وتفريعة قناة السويس، ومشروع توشكى الجديدة، فى نفس الوقت الذي تتعرض فيه الدولة نفسها لأزمات اقتصادية هائلة، تنتهي بتدخل أكبر للمؤسسة العسكرية، بإنشاء صرافات تابعة للجيش، وضخ المزيد من “لبن اطفال،” من صناعة الجيش. ناهيك عن التفريط فى الدولة statehood نفسها، ببيع أجزاء من أراضٍ مصرية، مما أثار استياء الشريحة الأكبر من الشعب، بما فيهم أشد مؤيدي السيسي تعصبا.

النساء كأداة للتخلص من الأزمات

أرى النظام يتصدع على مستويات مختلفة، فلم يعد بكامل رجوليته كما سبق. وهو يحاول يائسا الاستيعاض عن رجوليته المنقوصة، بإحكام قبضته على النساء، والمبالغة في لعب دور حمائي تجاههن.

قالت لي صديقة، ذات مرة: “كل ما الدولة تتزنق، تمسك فى قضايا الستات.” فعندما فشلت الدولة في التصرف في مواجهة الأحداث الطائفية المتتالية في المنيا، التي راح ضحيتها العشرات، استخدمت نفس الخطاب الحمائي مدعي النسوية. فمن الغريب للغاية أن التصريح الوحيد، الذي أدلى به الرئيس، بشأن كل هذا التوتر، الذي وصل لأكثر من سبع وسبعين حالة عنف طائفي، في الفترة بين يناير 2011، حتى يناير 2016، وفقا لبيان8 المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، هو بعد حادثة الاعتداء على سيدة مسنة في أبو قرقاص, المنيا، وتعريتها بالكامل. أدان الرئيس حادثة” الاعتداء على سيدة مصرية،” كما أسماها، وأكد على أن كل “سيدات مصر، لهم كل الاحترام، والإعزاز، والمحبة، وأننا لا نقبل أبدا إنه يتكشف سترنا.” و كأن واقعة التعرية ليست جزءًا من سياق طائفي متشابك، تعجز الدولة عن مواجهته. لماذا لم يعلق الرئيس على أى من الحوادث الأخرى، بنفس هذه النبرة التعيسة؟ هل عرض الدولة يلخص فى عرض نسائها، وجنسانياتهن، وأجسامهن؟ هل فقدت الدولة السيطرة، لدرجة أن حماية النساء أصبحت شغلها الشاغل؟ إذا كانت حماية النساء، شغل الدولة الشاغل، لدرجة أنها  تدخل البيوت، لتحمي النساء من أزواجهن الخائنين، لماذا لا تحميهن من الاغتصاب الزوجي مثلا؟ لماذا يطل علينا نائب برلماني ليطالب بكشف عذرية لطالبات الجامعة؟9

لماذا لا يوجد، حتى اﻵن، قانون لمكافحة العنف الأسري؟ أو على الأقل، إحصائية رسمية، ترصد حالات العنف المنزلي، شاملا العنف الجسدي، والنفسي، والعاطفي، والحرمان من الحرية، ناهيك عن أن الدولة، لا تعتبر الحرمان من الحرية  ضمن إطار رصد العنف من الأساس.

يظل التساؤل هنا هو، هل تعامل الدولة الحمائي القمعي المتخبط  مع النساء، قائم على سياسات واضحة وممنهجة، أم هو جزء من العبث العام والعشوائية اللذان يعدان من سمات الدولة، في عصر السيسي و رجاله؟

و هل فى رحلتي القادمة، إلى سيناء، سأحتاج إلى حجز فندق، وتصريح أمني فقط، أم أيضا إلى تصريح من الوصي، أو ولي الأمر، لأني قاصر، تجاوزت الأربع وعشرين عاما؟


1 “مباحث شرم الشيخ تسلم فتاة الإسكندرية المتغيبة لوالدها”،https://goo.gl/9Ya6QP جريدة الأهرام، 16 أغسطس 2016.

2 Joane Nagel (1998) Masculinity and Nationalism : gender and sexuality in the making of nations https://goo.gl/7BKrjv.

3  https://www.youtube.com/watch?v=5ZUbnfbMUfo مقطع فيديو

4 Human Rights Watch, Egypt: Military Impunity for Violence Against Women https://goo.gl/lh2in0 , 7 April 2012.

7  Max Weber.

8  المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، “مغلق لدواعٍ أمنية .. التوترات والاعتداءات الطائفية بسبب بناء وترميم الكنائس“، https://goo.gl/ssmnpt نوفمبر (2) 2016 .

9  “دخول الجامعة للآنسات فقط”، https://goo.gl/C40DoV سبتمبر (29) 2016.

Share Button