عودة إلي الصعيد

« of 5 »

سلام يسرى

اليوم الأول

11 يوليو 2016

كورال جمعية الصعيد

دائمًا ما شغلني كيف تؤثر الحالة الشخصية للفرد المنوط بتدريب مجموعة أخرى من الأفراد على ادائه؛ هذه الحالة الشخصية تحمل في كتلتها حالته النفسية والذهنية والمزاجية والصحية والجسمانية والعاطفية.

في اليوم الأول، وصلت صباحًا (لأبو قرقاص) بعد رحلة بالسيارة من القاهرة ولم أستطع النوم في الليلة السابقة على الرحلة ولكنني استطعت اختطاف دقائق عشرين نمتهم في السيارة وقت الرحلة ولم أحاول النوم لمدة أكثر في السيارة لأنني أكره النوم في وسائل المواصلات والذي يؤدي ببساطة لتيبسٍ  في العضلات كما أحسست بمسئولية تجاه صديقي (مايكل) وهو سائقنا الكريم. وجب عليّ البدء في العمل مع مجموعة (كورال جمعية الصعيد) بعد وصولي بساعتين تقريبًا؛ فاستجمعت طاقتي وحماسي وحضّرت برنامجًا مبدئيًا في ذهني كنت أعلم جيدًا أنني لن ألتزم به بشكل كامل وقت التدريب.

كنت قد قمت بإدارة ورشة عمل مع (كورال جمعية الصعيد) في عام ٢٠١١ بمشاركة (مريم صالح) و هي من شركاء العمل في (مشروع كورال) وواحدة من مؤسسيه كما أنها صديقة مقرّبة لي. تذكرت رحلتي و(مريم) وعملنا مع المجموعة التي تغيّرت كثيرًا فتبقى منها قرابة الخمس عشرة مشاركًا فقط وزاد عليهم أعضاءً جددًا. كبُر الأطفال في أربع سنوات وباتوا مراهقين. أغرمت و( مريم) بهم في العام ٢٠١١ كما أغرمنا بهناء و المنظمين الآخرين و اعتبرناها عائلة جديدة لنا. ولم أنس شيئًا مما حدث؛ فالوجوه رغم أنها كبُرَت إلا أنها ظلّت نفس الوجوه. كنت أتذكر تفاصيل ما دار في وقت ورشة ٢٠١١ سواءً أثناء العمل أو خارجهK فوقتها حضّرَت (هناء) ووالدة (مريم) و هذه ال(مريم) واحدة من المساعدين في (كورال جمعية الصعيد)، حضّرتا لنا وجبة (كِشْك) و الكشك الصعيدي أو بشكل أدق (الكشك) الذي يتم تحضيره في (المنيا) و (أسيوط) فقط كما علِمت لاحقًا، هو وجبة خاصة جدًا و لا تشبه بأي شكل من الأشكال (كشك ألمظ) الذي يحضّره المصريون في كافة المناطق و المحافظات و دون أن يعلموا أن هناك كشكًا صعيديًا.

يدوم تحضير وجبة واحدة لأربعة أيام؟

من وقت سلق القمح و طحنه لعجنه فخلطه باللبن ثم عجنه مجددًا؛ و بالتوازي يُخضّ اللبن بغرض فصل الزُبد ثم يضاف إليه يوميًا الملح و اللبن إلى أن يصير السائل سميكًا جدًا. كل هذا إلى جانب عيش (البتاو) المخبوز؛ هو وجبة الفقراء كما عبّرت (هناء) بثقة؛ فالأناس هنا يبذلون مجهودًا بدنيًا كبيرًا ويحتاجون لوجبة (مسنودة) أي مسبّكة – مسنودة بالزبدة البلدية  والدسم- فيضع الفلاح في جيبه (كشكًا) يصاحبه ليقضم منه في الصباح فيتمدد القمح في معدته (ليسندَه) طوال النهار. و ما يتبقى من (الكشك) يتم تكويره ويصبح كالمكسرات ليتناول أثناء متابعة التليفزيون (للتسلية).

بعدها أضاف زوج (هناء) أثناء زيارتنا لمنزلهم وعزومة على حمام محشو بالفريك وملوخية وأرز ولحوم وسلطة خضراء؛ أن السبب في اختراع (الكِشك) هو أن الفيضان حين يأتي ليُغرِق الأراضي فلا يتبقى للمصريين -الذين يتركون أراضيهم التي غمرتها المياة لفترة-؛ لا يتبقى لهم إلا الوجبات التي يمكن تخزينها ومنها الكِشك، وأنا أعلم أن لهذا كانت البقوليات والقمح ولازالت تحتل المرتبة الأولى في وجبات المصريين.

من المؤكد أنني اهتممت بقصة تحضير الكشك وتذوقه والحالة العائلية لمناخ العمل بقدر ما اهتتمت بتنسيق الورشة وإدارتها ومتابعة العلاقات بين الأطراف المختلفة داخل الورشة وما أنتجوه بشكل جماعي وباختبار منهجي في العمل وعملية التعلّم المهنية الخاصة بي.

واحدة من الجُمل التي غناها الكورال من أربعة أعوام كانت:”كان نفسي أعيش طفولتي في البيت ووَسْط عيلتي – مش اعول الهمّ بدري مع ابويا واصحى أجري ع الرزق والغُموس”. وحسبما أذكر أن (دكتورة هيام) وهي مدربة الكورال هي من اقترحت أو صاغت هذه الجملة وقت الورشة ولطالما تساءلت عن صحة جواز هذه العبارة عندما يغنيها هؤلاء الأطفال والمراهقون؛ فهم لا تظهر عليهم علامات الفقر بل على العكس الكل يهتم لمظهره فالشباب يضعون (الجيل) على شعورهم ويرتدون قمصان مهندمة والفتيات شعورهن منسدلة جميلة ويرتدين ملابس معاصرة تظهر جمالهن ونظافتهن.  ولكنهم فقراء؟ على أغلب الظن الإجابة هي نعم. ولكن الهجرة للخليج وللخارج عمومًا لم تغزو فقط القاهرة وأحياءها الجديدة وإنما هي حاضرة بقوة في عمق قرى الصعيد التي يغيب عنها الذكور من الشباب للعمل خارج مصر إلى حين تنضم إليهم زوجاتهن وأطفالهم. هاجرتا (مريم) و(مريان) في السنوات الأربع الأخيرة لأوروبا وتركتا الكورال. علِمت فيما بعد أن الحالة الاجتماعية لأعضاء الكورال من الأطفال والمراهقين تتفاوت من العامل في (ورشة للكاوتش) لأصحاب الأملاك والأغنياء جدًا. لم يكن من الممكن لي أن أعزل نسق الحياة اليومية هنا عن عملي مع المجموعة التي أشتغِل معها وعن نسق العمل معهم داخل الورشة.

تجوّلت وقت زيارتي الأولى في قرية أبو قرقاص البلد وهي جزء من مركز أبو قرقاص الذي يتوسط جغرافيًا المنيا وملوي، علِمت أن أغلبية السكان بها من المسيحيين وأن خلافات طائفية وحريق حدث منذ سنوات نشأ عن خلاف طائفي أدّى لتهجير المواطنين المسلمين إلى المنطقة ذات الأغلبية المسلمة ولتهجير المواطنين المسيحيين للمنطقة ذات الأغلبية المسيحية. عايشت القرية وقتَ قطع الكهرباء في عزّ حرّ الصيف وقد خرج الأهالي جميعهم لاحتلال المساحات خارج بيوتهم و محلاتهم بلمبات الجاز لتفادي حرارة الأماكن المغلقة وبدت لي صورة من العصور الوسطى لقرية غزتها الكهرباء والأجهزة الحديثة ولاتزل شوارعها غير مرصوفة بالأسفلت.

أبوقرقاص أعلنت مدينة خالية من ختان الإناث في عام ٢٠٠٥ وهو حدث استثنائي لأن الختان تقليد لم تستطع حتى القوانين حكمه أو الحد منه إلا قليلًا جدا.

في القرب من هنا قرية “بني عبيد” التي يأتي منها بعض أعضاء الكورال يوميًا لحضور التدريب؛ وهناك توجد آثار من أهم بقايا الحضارة المصرية القديمة، واصطبل عنتر هنا يحوي مقابر من الدولة الوسطى منحوتة في الصخر. لم أزر بعد بني حسن ولكني في الزيارة الفائتة للمنيا والبرشا إذ كنا بصدد العمل مع فرقة مجانين من المنيا و فرقة تياترو الصعيد من ملوي وبانوراما البرشا من البرشا؛ حرصت على زيارة تل العمارنة؛ وكانت الرحلة بصحبة صديقنا (مايكل) الذي يتكسّب كسائق يأتي للقاهرة بسيارته لتوصيلنا للمنيا وإرجاعنا منها للقاهرة، ولكنه في الأصل مرشد سياحي وقد افترض في عامه الأخير من الدراسة في كلية الآثار أن “إخناتون هو جده الأكبر”؛ وبدأ بحثًا يحاول فيه إثبات هذه الفرضية إلا أن أساتذته في الكلية رفضوا بحثه حتى بعد أن استطاع إثبات ست عشرة أسم من أسامي أجداده. (مايكل) اصطحبنا كصديق عازلًا ما بين علاقته معنا القائمة أصلًا على العمل وبين علاقته بنا كصديق، وقضيت الرحلة بالسيارة من المنيا لتل العمارنة في سيارته الصحراوية (لادا نيفا) اسأله عن جده إخناتون ويحكي هو وأنا أقاوم نظريات يكرّرها أظن أنها غير دقيقة وأسمح لخيالي بتفسير حقائق التاريخ المصري القديم كما أريد لا كما يزعم علماء المصريات ومايكل على حدٍ سواء.

١٢ يوليو ٢٠١٦

أبو قرقاص

اليوم الأخير

أول ما وصلت لبيتي في القاهرة، حضرتني جملة واحدة عبّرت في ذاتها عما فاض بنفسي من مشاعر:

“مع كل هذا الحب، أنا في أمان”

يوليو 18، 2016

سلام يسري

مستشار فني ومدرب بمشروع القطر.

Share Button