من الشمال للجنوب

أغسطس 17, 2016

منة إكرام

طالما فكرت في معنى كلمة “استشراق”، لأني دائما ما استخدمها، في سياقات متصلة بالعجرفة، أو عدم المعرفة بثقافة ما. عادة ما تكون هذه الثقافة تنتمي إلى دولة في الجنوب، الجنوب الأفقر، الأقل تعليما، الأكثر معاناة من الديكتاتورية والسلطة الأبوية. فيتم إخضاع معظم من ينتمي إلى هذا الجنوب إلى صور نمطية، تتعلق بكيف يعيش. أتذكر، عند بداية استخدامي للإنترنت، كان هناك هوس لجيلي، الذي كان في عز مراهقته، بالتواصل مع شباب وشابات من بلدان أخرى. وأذكر أن أول سؤال كان دائما “asl؟” أي، السن، والنوع، ومن أي بلد، أو موقعي في العالم. وحين كنت أقول أني فتاة من مصر، دائما ما كنت أواجه أسئلة تبدأ بهل لديكم مياه جارية؟ هل تتحركون بالجمال؟ هل تعيشون في خيمة؟ هل لديكم كهرباء؟ وكانت هذه الأسئلة تثير حنقي في البداية، بمنطق إذا لم يكن لدي ماء وكهرباء، وأعيش في خيمة، وأركب جملا، فكيف أنا متصلة بالإنترنت، وأستخدمه في نشاط ترفيهي كالمحادثة؟

ولكن، مع الوقت، أصبحت هذه الأسئلة تضحكني. وهى، بالنسبة لي، مجرد مؤشر عن الجهل بالآخر، وكيف أن تصوراتنا، أحيانا، تكون مبنية على أساطير ما، كوّنها العقل الجمعي، وساهم بها وضعنا التاريخي. ولكن الأسئلة التي بقيت دائما تغضبني: هل تبقين في البيت، في حين يذهب أخوك للدراسة؟ هل أنت مجبرة على ارتداء الحجاب؟ هل ستتزوجين في سن السادسة عشر؟ كنت أحس أنى صحيح فتاة أعيش في مجتمع أبوي وذكوري، وأواجه تحديات، ولكني أذهب للمدرسة وأتعلم، لم أتعرض للختان، والدي يعطيني مساحة حرية توازى المساحة التي يعطيها لأخي؛ إذن لماذا كانت تغضبني هذه الأسئلة، وأبدا لم أقدر أن أضحك عليها؟ لأني كنت أعلم أني محظوظة، وأن هناك فتيات يتعرضن لكل ما سبق، وحياتهن مختلفة كليا وجزئيا عن حياتي.

بحماس وفورة الشباب، في بداية عشرينياتي، وفي أواخر سنواتي الجامعية، وجدتني أنخرط في المجتمع المدني، أقوم بأعمال تطوعية أو مدفوعة الأجر في مناطق حضرية عشوائية أو في الريف. أقوم بتعليم المراهقين، من سن 13 سنة حتى 18 سنة، كيف يصنعون مجلة للحي، كيف يقومون بعمل التحقيقات، كيف يكتبون المقالات، وكيف يصورون صورا لأناس من مجتمعهم، أو بيوت ومناطق فيه. بعد عدة أيام من العمل المكثف، كانت تخرج مجلات حائط، أتصور معهم صورة، وأظن أني قمت بدوري، وأنى شخص مسؤول، يحاول تمكين الأقل حظا منه. ولكن، في مرة، كنت أقوم بعمل ورشة في أحدى قرى منطقة المرج، وبالتحديد في مقلب زبالة، في عشة من الصفيح، وهذه العشة تستخدم كحضانة للأطفال. قامت ‘خناقة’ بين اثنين من المشتركين؛ لأن الحديث تطرق إلى والدته التي تعمل في الحضانة، ووالدة الآخر، التي تعمل بائعة ملابس في محل، وتترك أخاه الصغير لوالدتها. وكيف أن والدة اﻷول سيدة مهملة، وأن والدته البائعة “أنظف منها.” قام هذا الطفل بإخراج مطواة من طيات ملابسه، وهجم على الفتى الآخر الذي يبلغ من العمر خمسة عشر عاما، وأخرج “موسا” من فمه. تطور الموقف. وأصبح عجزي واضحا. وتدخل الكبار، وأصبحت ‘الخناقة’ أكثر عنفا، حتى أتى أحد كبار المنطقة، أطلق طلقتين في الهواء، وانتهى العراك كما بدأ بلا سبب، سوى ممارسة بها سلطة، سواء سلطة الطبقة الاجتماعية، حتى لو بفروق طفيفة بين الأم التي تعمل بالمرج، وبين الأم البائعة في محل. أو السلطة المتمثلة في حضور ذكوري له فارق السن والمكانة الاجتماعية، والأهم حيازة السلاح.

كانت هذه آخر ورشة تقريبا أعمل بها من هذا النوع. لأن التجربة، بالنسبة لي، أثبتت أن ما كنت أفعله هو “استشراقي بالدرجة الأولى.” أهبط على واقع “بالباراشوت،” وأحاول تمكين من فيه، بكورس مكثف عن حرية الرأي والتعبير عن الذات. وأرحل بعدها بأيام، دون أي معرفة أو أثر حقيقي؛ مثل هؤلاء الشباب، الذين يعتبرون أن بإجرائهم محادثات، من خلال الإنترنت، مع شابة أو شاب من مصر، فقد عرفوا وبذلوا مجهودا أن يفهموا هذا الآخر.

ولكن مع اقترابي من نهاية عشرينياتي، تعرفت على مجموعة من النساء القويات المثقفات، اللاتي يحاولن العمل خارج تصنيف المجتمع المدني. فهن لسن جمعية أهلية، ولا مركزا بحثيا بشكله المعتاد، بل هن مجموعة، مبادرة، واسمها “اختيار.” يخترن أن يمشين بخطى حثيثة وبطيئة وخارج السرب. ويقدمن ما يسمينه إنتاجا معرفيا باللغة العربية. انضمامي لهذه المجموعة كان بالأساس لتنظيم عروض للأفلام، وإقامة نقاشات حولها، وربما في وقت لاحق، ترجمة هذا التفاعل الثقافي لمحتوى نقدي يجمع بين السينما والنسوية. ولكن بالصدفة أخذتني الرحلة للمنيا، فى محاولة لجمع قصص من فتيات في قرية البرشا، وتحويلها لنص مسرحي يعرض في الشارع.

هذه المرة أختلف وعيي، كنت حريصة في رحلتي نحو الجنوب ألا أكون “استشراقية؛” أن أذهب بلا صور نمطية أو تصورات مسبقة عما سأجده؛ أن أحاول أن استحضر أكثر ما يكون من تراثي الريفي، برغم أنى ابنة المدينة الكبيرة بامتياز. ولكن لي زيارات قصيرة، ولكن مستمرة لقرية والدي في الريف. وهذه عرفتني أنه، على الأقل، للمكان لغة وإيقاع. ويجب أن أحاول أن أحترمه. حين ذهبت للبرشا لأول مرة، قررت أن أسمع أكثر مما أتكلم، أن أرى أكثر مما أنقل صور، وأن أحاول أن أكون مستقبلة أكثر منى مرسلة.

ووجدت أن لغة وإيقاع الصعيد مختلف عن الدلتا. البعد الطائفي أوضح وأكثر حضورا. في الطريق إلى قريتنا في الدلتا، هناك “كفر النصارى،” المزينة بيوته بالصلبان ورسومات المسيح والعذراء. ولكن، ليس لوجود هذه القرية أي معنى سوى أن هناك تجمع للمسيحيين هناك. ولكن، في ليال كثيرة سهرنا في غيطان هذا الكفر؛ لأنها أجمل من غيطان قريتنا. إنما، في البرشا، هناك خط وهمى يقسم القرية، لجزء مسيحي، وجزء مسلم. البيوت مزينة بكل الرموز الدينية، التي تعلن حدود هذا الخط بوضوح، في استنفار واضح، والنساء يغبن عن أطراف هذا الخط، والرجال يبدون أكثر استعدادا للانقضاض؛ مثل هذين المراهقين في العشة الصفيح في المرج. ولكن حين ندخل القرية، ننسى للحظات كل هذا. لأننا نكون محط الأنظار. القادمون من القاهرة، المتحدثون بلهجة غير. والذين في نهاية اليوم سيعودون إلى بندر “المنيا،” الذي هو أبعد بكثير مما وصلت إليه أية فتاة من المجموعة التي نعمل معها؛ فمعظمهن ينهين دراستهن في المدارس الخاصة التي أنشأتها الكنيسة في الجزء الخاص بهن من القرية -لأن الحكومة تبنى المدارس ومراكز الشباب في الجزء المسلم فقط، في رسالة واضحة، أن الدولة تقر دولة الكنيسة، ولكنها لا تسمح لها أن تنعم بالرخاء. فهي مهددة في أية لحظة، من شعب الدولة الكبرى المسلم. معظم هؤلاء الفتيات يلتقين لأول مرة بفتيات مسلمات، في المركز “ملوي،” لاستكمال الدراسة الثانوية.

بعد أن كتبت هذه الفقرة أحسست أني وقعت في فخ “الاستشراق.” أنني القادم من الشمال الميسور الحال مقارنة بهنا، وأنى أصف الوضع الأعم. ولكن الحقيقة أن قصصهم الشخصية التي حكوها لي تحميني من الوقوع في هذا الفخ. تجعل للجنوب خريطة. فأنا أعرف “شارع السلك” و” الدكان” و”مركز الشباب” والجزيرة” و”الجمعية.” والأهم أنى أعرف أسماء الفتيات، يُقبلنني ثلاثا، ليس لأنها سنة نبوية كما في القاهرة، ولكن لأنها عادة. يحضنني وينادينني “بالأبلة منة.” والأهم، أني شاركت في مسيرة مهمة. مشت الفتيات من الجمعية إلى مركز الشباب، في الجزء المسلم من القرية، حتى يعرضن المسرحية. صحيح أنه كان هناك سيارة شرطة عند المركز، لفرض سيطرة أو هيبة، أو كطلب ألا يحدث أية مشادات. ولكن واقع الأمر أن الشباب المسلم في مركز الشباب، كانوا ينظرون للفتيات، اللاتي كن يقدمن البروفة الأخيرة على المسرحية، بإعجاب. فهن أحلى؛ لأن شعورهن يداعبها الهواء، وألوان ملابسهن أكثر بهجة، ولأنهن ممثلات.

بعد هذه التجربة، كان هناك الكثير من التعلم للفريق، ومنه خرج مشروع القطر، الذي رجع للبرشا إلى جانب قرى أخرى، يقضى فيها وقتا أطول، ويعمل أكثر على تأهيل الفرق المسرحية وتطويرها وإعطاءها الدعم الفني والتقني، لتدفع مسيرتها إلى الأمام.

طُلب مني، في بداية المشروع، أن أعمل على التوثيق البصري للمشروع. وأول ما خطر في بالى، أني أريد أن أسجل هذه الرحلة لمجموعة من المدربين، الذين يعملون بالفن بمختلف أشكاله، ويعيشون في القاهرة، وسافروا وعرضوا في الشمال والجنوب، سواء داخل أو خارج مصر، رحلتهم لمدة عشرة أشهر يبنون علاقة، يكسرون صور نمطية، يراجعون أساليب تدريب، أو حتى يتعلمون من طزاجة وبساطة وإبداعية الأفكار، التي تخرج من مكان لم تلوثه المدينة الكبيرة، بكل تعقيداتها ومساراتها الإجبارية.

هذا المشروع، بالنسبة لي، ليس فقط تجربة تستحق الثناء. ولكنها أثبتت لي أن هناك فرق بين أن تكون “استشراقيا” وتعمل للخير، أو أن تكون شخصا معنيا بالفن والفنانين، وتوفرت لديك بعض الإمكانيات، وقررت أن تعمل مع فنانين آخرين؛ فطرتهم ورغبتهم في عمل مسرح أو كورال أو عروض شارع، أقوى من التعليم، والطبقة الاجتماعية والنوع والدين. هي مساحة يمكن لكل من فيها، أن يتخلى عن بعض من غروره ورضاه بوضعه الحالي، ومشاكسته، حتى يخرج فنا يعرض في الشارع.

في النهاية، هناك مجموعة من الفتيات من قرية البرشا، اللاتي لم يتعد خط سيرهن “ملوي،” يقمن بكسر تلك النظرة “الاستشراقية.” بأدائهن الذي يعبر عنهن بشكل حقيقي وملهم، ليرشدننا جميعا، ويفتحن لنا مساحة متبادلة للتعلم.

كتابة،

منة إكرام

مخرجة وكاتبة سيناريو وعضوة في مجموعة اختيار

Share Button