بيريود

 مي طراف

بيريود (PDF)

نزلتُ من القطار بتعجلٍ. متأخرة كثيرًا .. لدي العديد من المواعيد التي أحاول اللحاق بها بعدما تأخر القطار عن موعد وصوله ساعتين. لم يكن ذلك أسوأ شيء حدث، وإنما الأسوأ من كل ذلك كان ملاحظتي للعديد ممن يسيرون خلفي ثم يسبقونني قليلًا ويلتفتون ليرمقوني بنظراتهم المتفحصة باحتقار شديد ثم يديرون وجوههم فور أن أحدق فيّ أعينهم متسائلة، كانت نظراتهم تثير في نفسي الكثير من التساؤلات، لم أفهم لماذا ينظرون إليّ هكذا!

متعبة ومرهقة لم أنّم منذ يومين، هل يبدو عليّ التعب ولهذا ينظرون إليّ؟ ولكن منذ متى أصبح الناس ينظرون إلى المتعبين بهذا الاحتقار ؟ هل هناك شيء مُمزق في ملابسي أو مكشوف؟ تفحصت نفسي مجددًا ولكن لم يكن هناك شيء، لم أفهم سر نظراتهم تلك إلا حينما وصلت المنزل وأدركت أن دماء دورتي الشهرية قد أعلنت عن نفسها في وقت غير متوقع. لم يكونوا ينظرون إليّ، كانوا ينظرون إلى دمي بكل هذا الاحتقار! تصور أن يتم احتقاري وإهانتي هكذا لشيء لم يكن لي يد فيه يومًا، لم استطع أبدًا تفهم أن يعتبر أحدهم دمي نجاسة، وآخرًا يعتبره إثمًا من الله عليّ، وآخرًا يتخذه دليلًا على أنيّ أدنى منه عقلًا ودينًا أو أنيّ كامرأة أقلُ من الرجل نظافة وطهارة.

يأتون بأحاديث وآيات تؤيد تلك النظرات، فيقولون أن النساء ناقصات عقل ودين بسبب دماء دورتهن أو أن الحيض أذى . يفسرونها كما شاؤوا على أهوائهم، نستمع إلى المنابر في صلوات الجمعة تعظ الرجال باجتنابنا وضربنا وبأن أفضل تعامل معنا هو أن نساق مثل البعير، لا أعلم  كيف يصدق الرجال هؤلاء الشيوخ فيما يقولونه أو حتى كيف تصدق النساء عن أنفسهن ذلك كيف يصدقون أن  الله العادل من الممكن أن  يخلق إنسان بصفات معينة ثم يُحقر من تلك الصفات، كيف يخلق الله الجميل مخلوقًا فقط ليعذبه، ليتم إهانته وإذلاله طوال الوقت، كيف لهم أن يعبدوا إلهًا يظلم مخلوقًا ليس له أي ذنب سوى إمتلاكه عضوًا جنسيًا غير الذي يمتلكه الآخر، ليس هذا الله الذى أعرفه، الله يصنع الخير والجمال والعدل والرحمة وليس ما سواهم أبدًا.

يتحدثً بعض الأصدقاء الذين يحاولون التحرر من ذكوريتهم بعبارات ضخمة مثل أن المرأة كانت مقدسة يومًا ما في الحضارات القديمة، حينما كانوا يعتبرون الدم سر الحياة فأتت قدسيتها من دمائها، ولذا فالمرأة أفضل من الرجل من وجهة نظرهم أو كما يزعمون، ويستدلون على ذلك بملكات الحضارات القديمة ودورهن العظيم في بناء الحضارات، بعضهم يرجعون سبب كل هذا الاحتقار والامتهان لظهور الأديان والتي تحتوي على كثير من النصوص التي تمتهن حقوق النساء وتضعهن في المرتبة الثانية بعد الرجال وتحت قوامتهم، والبعض الآخر يقول أن السياسة والصراع على السلطة هم السبب، والبعض الآخر يقول أن السبب اقتصادي، الحقيقة أنه لا يعنيني كل هذا .. لا أرى في كل هذه المناظرات سوى رد فعلٍ معاكسٍ طبيعي للتيار الآخر المتشدد،   فعادة يميل الناس إلى المغالاة في الأمر للدفاع عن ما يؤمنون به فحين يقولون أن المرأة نجسة نقول نحن أنها مقدسة كفعل تعويضي ومحاولة لطمأنة أنفسنا أننا لسنا كما يصوروننا هم، ننزوي بعدها في القوقعة الخاصة بنا في محاولة للتصالح مع أجسادنا التي فقدناها والتي انفصلنا عنها منذ سنين بعيدة.

لا أرغب في القداسة، أرى فيها وجهًا آخر للسلطة، كلما قال أحدهم أن المرأة مكرمة ومقدسة أو أن الأم لها منزلة عظيمة لدورها في تربية الأمم والأجيال والتنشئة الاجتماعية .. كل هذه المقولات تصيبني بالذعر الشديد، كل هذه المقولات أنتجت طوقًا آخر يضاف إلى الأطواق المحيطة برقبتنا حتى صرنا غير قابلات للخطأ، محصورات في مربع واحد يجب علينا التحرك فيه، وصار الخطأ مبررًا للرجل غير مبررٍ للمرأة، وصار كل شيء مباحًا للرجل محرم على المرأة، نحن مقدسات، مبجلات، كل شيء له حساب ولأن كل شيء تحت النظر يفقد حريته، فلا أريد أن ينظر إليّ أحدهم.

أريد فقط أن أمُر في الطريق فلا يلحظ أحدٌ مروري، هل جربت من قبل أن تشعر بالخفة ؟ تمر خفيفًا كالهواء، تعبر فلا يراك أحد، لا يهتم أحد لوجودك أو عدمه، أن تكون غير مرئي، لا وجود لك؟ يحدقون بنا حين نسير في الطرقات، يخترقون أجسادنا بأعينهم، فنشعر أننا مراقبون طوال الوقت تحت رحمة أحكامهم علينا، فمن كان حكمه رفيقًا اكتفى بنظرة متفحصة، وإذا لم يكن فنستحق منه ما هو أبشع من ذلك بكثير. نحن لا نأخذ من نظراتهم إلينا سوى كل إهانة وإحساس بالوجع والخزي والعار! لماذا يتلفتون إلينا وإلى أجسادنا بتلك الطريقة ؟ .

صرت أُفضل اللاوجود عن وجودٍ دميمٍ أحمقٍ، صار يؤلمني كل يوم حين أسير في الشارع، حين أجلس مع الأصدقاء، حين أتحدث مع أسرتي التي أنشأتني على احتقار نفسي، على الأحساس كل يوم بأنيّ ابتليتُ بابتلاء ما، ذلك الابتلاء هو أنني أنثى، هذا الإحساس  الذى تشعر به كل واحدة منا حين تأتي دورتها الشهرية، إحساس أن هناك حدث فارق قد يحول كل شيء إلى شيء آخر، كل إحساس إلي إحساس آخر كالذي شعرته صديقتي حين جاءتها دورتها الشهرية وهي تبلغ عامها الثالث عشر، قرر أهلها حينها ان تلتزم بزي معين، أن ينقلب شكل حياتها رأسًا على عقب،  طفلة في الثالثة عشر ترتدي حجابًا طويلًا وملابس فضفاضة. يوم واحد وحدث واحد فقط، كتلة من الدماء تقرر الزي والشكل والتصرفات والنمط الكامل للحياة، تصبح جزءًا من تشكيل هويتنا كنساء، نلبس الأسود والغامق في وقت الدورة، نتحاشى الكثير من الحركة، نضع الفوط الصحية في كيس أسود حتى لا يراها أحد فيفتضح أمرُنا. نهمس للبائع بأننا نُريد “أولويز” وكأنها جريمة، أو كأننا نطلب أشياء غير مشروعة، حتى أن المخدر لا يخبئونه بتلك الطريقة، وتصير كل متطلباتنا الأنثوية همسًا بعد ذلك،  بين النساء نقول “بريود” كي تكون أخف وطأة مما ننطقها بالعربية  “الدورة ” وعند الحديث مع الجنس الآخر يكون الكلام عنها بالإشارة “البتاعة” أو أي اسم آخر للإشارة إذا تجرأنا على ذكرها من الأساس لأنه شيء لا يجب التحدث عنه في المجال العام، كل النكات التى تطلق علينا، كل الهمز والاستهزاء، كل الاشمئزاز والتقزز من رائحة الدم أو شكله.

اتذكرُ الفزع الذي رأيته في عيني أُختي الصغيرة حينما جاءتها الدورة ومحاولتها لإخفاء ذلك حتى لا يتم وضع القيود عليها لكونها تحولت من طفلة إلى بالغة الآن، وما كانت تخشاه قد حدث بالفعل، فصارت هناك تحذيرات على الملابس وشكل الجلوس والحركة والكلام وإيقاف اللعب مع باقي الأطفال. كلنا لنا نفس هذه الذكريات في أول يوم تأتي لنا فيه الدورة، الخوف من القيود التي ستفرض، هواجسنا من كل الأساطير التي كانوا يقولونها لنا من قبيل أنه من الممكن أن نحمل من مجرد جلوسنا مكان أي رجل، الخجل ومحاولات الاختباء، الشعور بالتيه، لا نعرف ماذا سنفعل أو من نحن؟ هل ما زلنا أولئك الأطفال الذين كانوا يلعبون بالأمس أم أن عهد الطفولة قد انقضى وصرنا جزءًا من عالم الكبار المليء بالحماقات والشر والقيود؟ نتخيل أن الله غاضب علينا فيعاقبنا بها فنبكي لكي يغفر الله ذنبًا لم نفعله قط، ذنب طفلة في الثانية أو الثالثة عشر من عمرها. إنه غالبًا ما يكون يومًا حافلًا بالبكاء. يُحكم علينا بأن تصير كل علاقتنا بأجسادنا هي الألم والخجل من انفسنا فقط، ومع الوقت يصحبه أيضًا شعور بالإهانة، نحاول تجنب التكلم فيه حتى الآن بعدما صرنا كبارًا.

لماذا نتوقف عن اللعب عندما تبدأ الدورة؟ تسأل ولا أعرف بماذا أجيبها فقد توقفت عن اللعب قبل أن تأتيني الدورة لأن معالم أُنوثتي قد ظهرت قبلها بدعوى تلك الجملة التي أتذكرها جيدًا “جسمها فاير” لا يصح لها أن تلعب وسط الأطفال، لا أعرف حتى الآن ما هي مشكلتهم مع كل معالم الأنوثة؟ ما شأنهم بجسدي؟  ما شأنهم بدورتي؟ كل هذا يخصني وحدي، فلماذا كل هذا الذعر ؟

البعض يحاول قولبتنا في دور الملائكة وتصويرنا بهالة مقدسة لا وجود لها، آخرون يعتبروننا مدنسات لا نستحق منهم سوى أن يعاملوننا كأداة جنسية يمتلكونها للمتعة، يأتون بها وقتما شاؤوا ويلقون بها كيفما شاؤوا. نحن لا نريد قداسة، نحن لا نريد دنس، فقط نريد حياة تخصنا، لا يمجدنا أحد ولا يهيننا. حياة تخصنا في وطن طبيعي، ولكن ما الطبيعي في وطن يقتات على الذل والإهانة، كيف له أن يحترم نفسه أو الآخرين!

Share Button