سوداء

هدى سالم

سوداء (PDF)

استوقفني أحدهم وأنا فى طريقي فى أحد شوارع وسط البلد في القاهرة يسألني عن  قلم. هممت أن أنزل حقيبة ظهري من على كتفي قبل أن أتذكر أن في الحقيبة اللابتوب. في الحقيقة خفت من أن يخطفها مني ويهرب فاعتذرت له بأنني لا يوجد معي قلم، وهممت أن أمضي  في طريقي قبل أن يستوقفني مرة أخرى متسائلاً “إنت مصرية؟” أثار فضولي سبب سؤاله خاصة وأنه كان يحمل فى يديه أوراقا كثيرة، فاستنتجت أن سؤاله عن القلم لم يكن سوى مبرر ليسأل عن جنسيتي فسألته:

 “اشمعنى؟”

عادي، والله، أنا بس بسأل مش هخطفك متخافيش.

أيوه برضه مش فاهمة سبب السؤال، إنت ماشي تسأل الناس هما منين؟!

لأ. أصل أنا عندي شركة نظافة وكدة. بسأل يعني إنت من السودان ولا التشاد ولا… لو حضرتك مصرية خلاص.

ظللت واقفة في مكاني للحظات والغضب يغلي في عروقي، وأقاوم أن أرد عليه “الجاكت اللى أنا لابساه أغلى من المرتب اللي عاملة نظافة ممكن تاخده يا ابن الوسخة!” وتركته وتابعت طريقي وأنا أسمعه ينادي “يا آنسة، ثواني بس يا آنسة أنا بس بسأل.” شعرت بالإهانة الشديدة من كلماته. لا أدرى هل غضبي لكونه أخطأ تقدير طبقتي الاجتماعية، أم لكونه ربط لوني بحتمية انتمائي لطبقة اجتماعية دنيا؟ ظللت طوال الطريق أتأمل مظهري في زجاج المحلات، أحاول أن استنتج ما الذى جعله يظن أنني عاملة نظافة؟ شعرت بأني مهددة، وتملكني التوتر طوال الطريق، اسأل نفسي “كيف يراني الناس؟” وأتذكر كلمات أمي وهي تحذرني من الألوان الفاقعة. مبررة تحذيراتها بأن “مش كل الألوان بتنفع معانا يا هدى،” وأن “مفيش غير الجماعة اللاجئين اللى بيلبسوا الألوان دى.” وبالرغم من أننا لا نتحدث عن ذلك صراحة، لكن كل ما يمكن أن يلفت النظر إلي هو أمر مرفوض تماما بالنسبة لأمي، سواء كان ذلك ألوانا فاقعةً أو “راستا،” ففي كل الأحوال، ما يهم هو أن أكون غير مرئية على قدر الإمكان، حتى أتجنب أية مضايقات. وأنا أنظر لانعكاس صورتي فى الزجاج، فى جاكيتتي الفوشيا، تسارعت نبضات قلبي وشعرت بأنني مهددة، لأنه خلال تلك المناقشة التي لم تتعد الدقيقة -ولأول مرة فى حياتي- يتم التعامل معي دون أحد أهم امتيازاتي فى القاهرة (طبقتي الإجتماعية) بهذا الشكل الصارخ.

طبقتي الاجتماعية المتوسطة، والتى تعتبر مرتفعة نسبيًا بالنسبة لمعظم سكان القاهرة، وتربيتي في المدارس الخاصة، وعملي في الشركات الأجنبية، أعطاني امتيازًا ضخمًا يساعدني في التعامل مع العنصرية ضد لون بشرتي. فقد مررت بالعديد من المواقف حيث كان مديري المطاعم يظنون أني ربما أمريكية أو أوروبية إفريقية، فحصلت على معاملة خاصة. كذلك الوضع في اﻷقسام وفي تعاملي مع الشرطة. ذلك الامتياز يسقط تلقائيا لو قررت أن أنزل إلى الشارع بملابس بسيطة أو لافتة، أو قررت التجول في أحد المناطق التي يتكتل فيها عدد من أبناء الجالية السودانية الجنوبية، أو اللاجئين الأفارقة عموما، أو إذا وقفت في كمين مع صديق في وقت متأخر من الليل. وفي كل هذه المواقف يتم التعامل معي كأحد اثنتين: عاملة جنس، أو عاملة نظافة. وفي الحالتين فإن الإهانة و التعليقات العنصرية تجوز في حقي. ولكن ما يجعل الموقف السابق مختلفًا عن باقي المواقف التي تم التعامل معى فيها بعنصرية عدا أنها أول مرة يصرح فيها أحدهم بأنه يظنني عاملة نظافة، هو أنني لم أستطع أن أرفع كارت طبقتي وهو ما جعلني ألوم نفسي بقية اليوم. في العادي تعلمت كيف أن التحدث بالإنجليزية بلكنة جيدة في الكمين يخرجني بسرعة من خانة عاملة الجنس/ النظافة، حتى وإن أخرجت بطاقة هويتي المصرية، فإن الشخص غالبا ما يقرر التعامل معي باحترام. امتيازي الطبقي يعطيني قوة ليست بالقليلة بالنسبة لكوني أنثى سوداء.  

كنت قد قررت منذ فترة أن أقوم ببحث عن الاضطهاد الذي تتعرض له الطالبات من جالية جنوب السودان فى الكلية التي أدرس فيها. وتذكرت كم مرة ذهبت إلى الكلية بهدف التكلم معهن وبناء علاقات لبحثي. وكل مرة كان يمنعني خوفي من أن يخلط بقية الطلبة بيني وبينهن. حتى قررت أن أتوقف. كنت قد مررت بتجربة مشابهة في أول سنة دراسية لي في الكلية عندما قمت بضفر خصلات شعري “راستا،” عندما قامت إحدى الطالبات بشد ضفائري على سلم المدرج حتى كدت أقع على الأرض، كتجربة عملية أمام صديقاتها لترى إن كانت ضفائري حقيقية وليست extensions. وبمجرد أن بدأت بالصراخ في وجهها “إنت إزاى تتجرأي تمدي ايدك عليا؟ انتى مين اصلا؟!” انقلب الموقف 180 درجة وبادرت رفيقاتها بالاعتذار إلي بأنهن ظنن أني واحدة من “الجماعة الجنوبيين.” وبدأن يتساءلن عن جنسيتي، “أصلك بتتكلمي مصري كويس.” وفي نفس اليوم عندما حاول أكثر من رجل في طريقي إلى البيت عرض المال مقابل الجنس، تذكرت أول مرة تم الظن أني عاملة جنس عندما كنت في العاشرة من عمري. لم يكن أهلي في هذا العمر قد بدأوا سياسة محاولة الاختفاء قدر الإمكان. كنت أرتدي الأحمر، وأنتظر صديقتي في الشارع، عندما عرض أحدهم عليّ مبلغًا لا أتذكره مقابل أن أركب سيارته. لم أفهم وقتها لم يريد أحدهم إعطائي المال فقط ليوصلني إلى البيت؟ لكن عندما بدأ بتصويري بهاتفه عندما ابتعدت عنه، وقتها فقط شعرت بأنني انتهك. أتذكر كل هذا كلما هممت بالكلام مع إحدى الطالبات الجنوبيات أو محاولة الاندماج وسطهن، أتذكر كل ذلك وألف موقف آخر تعرضت له.

تعلمت أن أذهب إلى الكلية مرتديةً ملابس تميزني طبقيًا إلى حد ما، سواء بألا تكون ذات ألوان فاقعة كالتي ترتديها الجنوبيات، أو أن تكون ذات خامات ومظهر أغلى من التى ترتديها المصريات من طبقة أقل. قد يظن البعض أن بسبب لهجتي المصرية، التى لا أعرف التحدث بغيرها، وجواز سفري، الذي يثبت مصريتي منذ الميلاد، أننى لابد لا أجد صعوبة في الاندماج وسط بقية الطلبة فى الكلية. ولكن الحقيقة أنه منذ دخولي الكلية وأنا لا أستطيع الاندماج وسط الجنوبيات ولا المصريات. فالفئتان منفصلتان تماما، سواء في المدرج أو في الساحات حول الكلية، فلا تتقاطعان أبدًا. يوجد فصل عرقي تلقائي فى الكلية، يحفزه تمييز الإدارة والأساتذة فى المعاملة. فاندماجي وسط الجنوبيات يفقدني أمتيازًا اجتماعيًا لم أتعلم بعد كيف أتعامل بدونه. ووسط بقية الطلبة المصريين أنا كائن غريب عنهم. الكلية هي تجسيد لاغترابي عن المجتمع ككل بصفتي مصرية سوداء، ولست نوبية ولا سودانية، فأنا مصرية ذات جذور سودانية تعود لجدي الأكبر. فوسط طلبة، ينتمي معظمهم إلى طبقة اجتماعية أقل من طبقتي بفارق كبير، يُخلق حاجزٌ لا أعلم إذا كنت أريد فعلا كسره. حتى فى التعامل مع إدارة الكلية، أهلني الذهاب في أول يوم مع والدتي ذات البشرة الفاتحة نسبيا، وشهادتي من إحدى المدارس الخاصة فى مدينة نصر، بشكل تلقائي لمعاملة خاصة أفضل كثيرًا من معاملة الإدارة للطلبة الجنوبيين الواقفين بجانبي فى الصف. وبعد أربع سنوات في الكلية ما زلت أعطي الموظفة بطاقة هويتي المصرية قبل أن أقدم طلبي، تجنبًا لأي خلط. تعلمت أن امتيازي الاجتماعي وإبرازه في الكلية ينقلني من خانة اللاجئة، التي يجوز شد ضفائرها للضحك، للفتاة خريجة المدارس الخاصة، التي تستطيع المساعدة في ترجمة وفهم المواد الإنجليزية أو الجمل الفرنسية التي يلقيها الأساتذة فى المحاضرات.

– يعنى إنتِ مثلًا يا هدى، مش سودانية بالرغم من لونك. إنتِ مصرية 100%. لا بتعرفي شنو هي الكسرة ولا الويكة، ولا بتعرفي تلفي توب، ولا عندك أي معرفة عن الثقافة السودانية.

قالها لي أحد معارفي السودانيين، خلال نقاش طرحت فيه أنه لا يوجد ما يسمى بالثقافة الموحدة لأي قطر، مستندة في ذلك إلى تجربتى كمصرية من جذور سودانية، وكيف أني لا أنتمي لأي من الثقافتين. لكنني أعرف ما هي الكسرة والويكة، وأعرف كيف ألف التوب! كان هذا أحد المواقف التي أشعرتني ايضًا بالإهانة، رغم أنى طوال عمري لم أُعرّف نفسي أبدًا كسودانية ولا مصرية. فدائما ما تكون إجابتي عند سؤالي عن جنسيتي، “مصرية من أصول سودانية.” كنت أظن أن ذكرى للسودان كجزء من هويتي هو رد للسؤال الأساسي الذي يدور فى ذهن كل من يسألني عن جنسيتي. “إزاى سوداء وبتتكلمي مصري كويس؟” ولكني لا أجيد التحدث باللهجة السودانية، ولا أفهم معظم ما يقوله خالي الذي لا يتحدث إلا بها. ربما شعرت بالإهانة والغضب لأنه أحد المواقف التي انتزع مني فيها حقي في تعريف نفسي. أو ربما لأن حقيقة أني لا أملك رفاهية تعريف نفسي كانت واضحة أمامي. فلوني يعرّفني، لهجتي وأسلوب كلامي يعرّفاني، معرفتي للإنجليزية تعرّفني، حتى ملابسي تعرّفني.

أذكر عندما كنت في الثانية أو الثالثة عشرة من عمري، عندما استمعت لأغنية Michael Jackson – Black and White، فى المقطع الذى يقول “I am not gonna spend my life being a color”، و Oprah Winfrey تتحدث عن كيف أنها لم تتعامل مع نفسها قط باعتبارها سوداء، ولا تشغل نفسها كثيرا بكيف يراها الناس باعتبارها سيدة سوداء. وعاهدت نفسي بألا أقضي حياتي أتعامل على أنني سوداء، ولن أعرّف نفسي كسوداء. بعد مرور عشر سنوات على ذلك العهد، وبعد المرور بمرحلة تحول طويلة بدأت، كما أتذكر عندما أتممت الثامنة عشر، أتعلم أنني حتى وإن تمسكت بألا أعرّف نفسي كسوداء فجلدي سيقوم بذلك، تجاربي وتربيتي ستقومان بذلك، كل مرة يتم التعامل معي فيها كخادمة أو من طبقة اجتماعية أقل ستقوم بذلك. أول مرة تقوم أمي بإجباري على وضع الكريمات المبيضة قبل الذهاب إلى المدرسة، وفرد شعري بالمستحضرات الكيميائية، كنت في العاشرة من عمري. ما زلت أتذكر شعوري بفروة رأسي تحترق من المواد الكيميائية، ورائحة شعري المحترق التي تفوح لأسابيع كلما استحممت. كل تجارب أمي على شعري كي يصبح أملسًا، ومحاولتها محو لوني، ربما لجعل التجربة أقل سوءًا، أو ربما لأنها أرادت أن أشبهها أكثر، بلون أفتح من لون عائلة أبي الأغمق. كل حادثة تحرش تعرضت لها، كل مرة سبني فيها أحدهم في الشارع ظنًا منه أنني لا أفهم العربية، وكل يوم كرهت فيه جلدي ولوني، تعرّفني كأنثى سوداء، مهما حاولت إثبات عكس ذلك.

أتذكر يوم عيد ميلادي الثامن عشر، وأنا أنظر لنفسي في المرآة، فكرت ولأول مرة “مش ممكن أبقى سودا بس حلوة برضه؟ ما فيه مودلز سود حلوين.” تفحصت خصلات شعري المعالجة كيميائيا حتى تصبح ملساء، ورأيت جذورها المجعدة ظاهرة بوضوح، فقررت قص الأطراف المعالجة كلها، وفعلت ذلك، لكنني وجدت نفسي أذهب أسبوعيا للكوافير، حيث أنني وجدت أنني لا أعرف كيف أصفف شعري المجعد! كررت التجربة ثانية، وأنا في الحادية والعشرين من عمري، ولكني تلك المرة كنت قد تعلمت من الإنترنت كيف أتعامل مع شعري. قصصته وثار البيت كله علي، ورفضت أمي اصطحابي معها في الزيارات العائلية، لأن مظهري بشعري القصير المجعد “بيكسفها.” تجربتي مع شعري فى المرتين، تمثل علاقتي بلوني على مر السنوات. والآن وأنا أكتب تلك السطور عابثًة بخصلة من شعري القصير المجعد، كمايكل جاكسون في الثمانينات، أشعر بتصالح مع لوني ومع تجربتي. أرفض اختزالي إلى مجرد لون، ولكني لا أنكره بل أحبه واتقبله، فهو أنا وجزء من هويتي، حتى وإن جلب لي العديد من المشاكل. الآن أتذكر جملة Oprah ،Wenfrey وكم تأثرت بها فى سنوات مراهقتي، وأدرك أنها لم تكن جملةً تعبر عن حب وتقبل الذات كما ظننت وقتها، بل هي تجسيد لثقافة كره الذات، التي تفرضها الثقافة البيضاء، كره العرق، الذي يفرقنا عن البيض، ويجعلنا في مرتبة أقل، لحد رفضه البتة وإنكاره.

الآن أدرك أن “أدوات السيد لا تهدم منزله1.” كرهي للوني، الذى تربيت عليه في البيت والمدرسة، بل وحتى بمشاهدة التلفاز، بكل عارضات الأزياء والمشاهير السود ببشرة فاتحة و شعر أملس، وإنكاري للوني، وتقريرى أن لوني لا يعرّفني، لن يوقف الممارسات العنصرية ضدي، ولن يرضيني، لأنني أبدًا لن أكون بيضاء، مهما وضعت من كريمات التبييض. تقبلي للوني، كجزء مني ومن هويتي، يساعدنى على الفصل بين من يتعامل مع لوني وعرقي كجزء من تجربتي، مقابل من يتعامل معي فقط من خلال لوني، ويختزلني إلى ديكور في قائمة معارفه، يظهر به تقدميته، وأنه ليس عنصريًا. الآن أعلم أنني سأظل أقابل الاثنين بالإضافة إلى من لا يقبل عرقي من الاساس. الآن أتعلم في كل يوم أكثر عن نفسى، وأتصالح مع لوني أكثر. علاقتي بشعري أفضل الآن، بعد مرور ما يقرب من العامين منذ آخر مرة ملسته. بعض الأيام أفضل من الآخر. لكني في النهاية أحبه، وأظنه يحبني، بعد أن توقفت عن حرقه كل ثلاثة أشهر.


1 Audre Lorde, “The Master’s Tools Will Never Dismantle the Master’s House”, “Sister Outsider”, Crossing Press Berkeley. الترجمة العربية: https://goo.gl/rkyKQc 

Share Button