بين اللغة والتاريخ والتنظيم

 

3 يونية 2021

بين اللغة والتاريخ والتنظيم(PDF)

كتابة: مارينا سمير

بعد الانتهاء من كتابة المسودة الأولى من البحث المكتبي “القاهرة 94″، قررنا عرضها على مجموعة من النسويات المهتمات بالعدالة الإنجابية في مصر، للأخذ بآرائهن في الطريقة التي تناولنا بها موضوع البحث، ولفتح نقاش حول ما يطرحه البحث علينا من أسئلة. بعد الجلسة الأولى، قررنا أن تستمر لقاءاتنا ونقاشاتنا، وأخذت نانا على عاتقها تمرير جزء من المعرفة التي تمتلكها لباقي عضوات المجموعة، في ما يتعلق بالمناصرة الدولية والتفاوض على لغة برامج العمل التي تصدر عن المؤتمرات الدولية الشبيهة بـ “القاهرة 94”. طبعت لنا ثلاث مواد من برنامج عمل “القاهرة 94″، وكان التدريب أن نحاول تعديل وإعادة صياغة هذه المواد بالطريقة التي نراها تناسب رؤيتنا النسوية الحالية. بدأنا بأول مادتين، ووصلنا للمادة الثالثة وهي المادة 8.25 في برنامج عمل القاهرة، تناقشنا حولها، وحاولنا إعادة صياغتها بطرق عدة. قدمت كل واحدة مقترحًا، ثم وجدنا أنفسنا غير راضيات عما وصلت إليه المادة بعد التعديل. نقرأها مرارا، لكن تظل المادة شديدة التركيب، لا نستطيع أن نضع أيدينا على مشكلتها، نيأس ونقرر أن نوقف العمل عليها.

بعد بضعة أشهر، قرأت مقابلة أجرتها سونيا كوريا، وهي إحدى النسويات اللاتينيات اللاتي ساهمن بقوة في مؤتمر “القاهرة 94” وفي التحضيرات له، وما زالت تعمل على قضايا الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية. كانت المقابلة في مراجعة العشر سنوات على مؤتمر القاهرة، تشرح سونيا فيها الأسباب التي جعلت برنامج عمل القاهرة بهذا الشكل، وتقول إن المشكلات التي نجدها في القاهرة ليست مرتبطة فقط بالقاهرة كمؤتمر، لكنها تجسد اللحظة التاريخية التي عُقد المؤتمر أثنائها. وتشير سونا إلى أنه جاء بعد انتهاء الحرب الباردة، ما خلق احتمالية إعادة توجيه الإنفاق العسكري للتنمية، أو الأفضل من ذلك، للتنمية البشرية. تستفيض سونيا كوريا في الشرح قائلة إن برنامج عمل القاهرة كان نتيجة لعملية سياسية طويلة ومعقدة ساهمت فيها الكثير من الأطراف على المستويات الدولية والمحلية. كما أن تناقضات البرنامج والثغرات الموجودة فيه هي نتيجة للظروف السياسية وتوازنات القوى الموجودة في ذلك الوقت. وأضافت سونيا أنه لم يكن لديهن القوة في تلك المرحلة للدفع بالإجهاض كحق من حقوق الإنسان، وللتدليل على كلامها أشارت للمادة 8.25 من برنامج عمل القاهرة، واصفةً إياها باعتبارها خير مثال لبرنامج العمل، فهي تعكس صورة “مرتبكة” – على حد قولها. وتسترسل قائلة إن هذه المادة تعكس القوى المتصارعة في هذه اللحظة من التاريخ، كما يعكس برنامج العمل  ما سمحت الظروف السياسية بتحقيقه حينها. 

توقفتُ عند هذه الجملة، وجلستُ أتأمل! هذا هو السبب الذي أصابنا بالارتباك عند العمل على هذه المادة! فبمجرد النظر للكلمات المرصوصة أمامنا ومحاولة اللعب معها، استطعنا أن نشعر بكم القوى المتصارعة والمتشابكة والمستميتة في الحفاظ على هيمنتها على أجسادنا. بعد خمسة وعشرين عامًا من مؤتمر القاهرة التاريخي، استطعنا التماهي مع ما تشرحه سونيا كوريا من دون قراءة مراجعتها. هكذا تتجسد توازنات القوى لأطراف دولية ومحلية في حروف وكلمات وجمل مطبوعة على ورقة. هذه الكلمات المطبوعة، والتي أستطيع شطبها بجرة قلم، بإمكانها تحديد مصائرنا، وحجم الدعم الذي سنحصل عليه متى احتجنا خدمة طبية ذات جودة جيدة  وآمنة ومتاحة لنا جميعًا. تتخطى اللغة هنا دورها الوظيفي في تيسير التواصل بين البشر، وتأخذ منحى به الكثير من السلطة على حيواتنا واختياراتنا والبدائل المتاحة لدينا. على الرغم من قول سونيا كوريا أن النسويات لم يمتلكن القوة حينها لفرض الإجهاض كحق من حقوق الإنسان، أستطيع أن أرى ما فرضته النسويات؛ الربكة، ربما الشعور بالتهديد، وزعزعة ما كان مستقرًا وثابتًا، واستنفار كل القوى من أجل الدفاع عن مواقعها وتثبيت أقدامها على أجسادنا. ويتجسد ذلك بوضوح في الحملة التي أطلقها الفاتيكان بالتعاون مع القوى الإسلامية للهجوم على ما طرحته النسويات في مؤتمر القاهرة. هذه الربكة لم تكن لتحدث لولا العمل المنظم الذي قامت به النسويات في العالم. 

تستكمل سونيا كوريا كلامها قائلة: “علينا التركيز الآن لبناء تلك القوة”. 

تقع جملة سونيا عليّ كالسهم، وأردد بداخلي: “لكن أين ذهبت بوادر تلك القوة في مصر عزيزتي؟”

في خضم نقاشاتنا في المجموعة، تعلمت كتيرًا وبدأت أن أرى بُعدًا جديدًا لما تعنيه اللغة حقًا، وما تعنيه موازين القوة المرتبطة باللغة. كنا ندير النقاش بالعربية، ونقترح التعديلات اللغوية بالعربية، ثم أدركنا كيف يمكن للترجمة أن تُفقد لفظًا متفقا عليه قوتَه وإلزامَه وأحيانًا معناه، فبرامج العمل تُكتب في الأصل بالانجليزية، ثم تترجم للغات الأمم المتحدة الستة، من ضمنها العربية. كل النقاشات والمعارك التي تخوضها النسويات عن اللغة  في مساحات المناصرة الدولية تكون بالانجليزية. اللغة ليست هدفًا مجردًا في حد ذاته، لكن النظر للطريقة التي تعمل بها اللغة على مستويات التنظيم والمناصرة المختلفة تعكس جزءًا من علاقات القوة الموجودة دوليًا؛ تاريخًا من الاستعمار وحاضرًا مُعولم تقوده سياسات نيوليبرالية مفروضة من مؤسسات دولية. بالإضافة لذلك، تكرس اللغة لموازين قوة قائمة داخل الحركة، وعدم الالتفات لشكل اللغة المستخدمة داخل الحركة هو انعكاس لعدم الالتفات لموازين القوة الناتجة عن المواقع المختلفة للنساء المشاركات في الحركة في لحظة معينة من التاريخ.

أجرينا مقابلات مع بعض من النسويات اللاتي شاركن في مؤتمر “القاهرة 94″، وكانت اللغة أحد المواضيع التي تناولتها كل منهن بطريقة ما. قالت آمال عبد الهادي، إنه في بداية التنظيم لمؤتمر “القاهرة 94″، بدأت في التشبيك مع مؤسستين دوليتين في إطار عملها في مركز القاهرة لحقوق الإنسان، المنظمة الأولى هي WEDO (Women, Environment and Development والمنظمة الثانية هي (DAWN (Development Alternatives with Women for a New Era. تحدثت آمال عبد الهادي عن كيف كانت هذه التجربة كاشفة بالنسبة لها، وفتحت أمامها آفاقًا جديدة، طورت من خلالها نظرتها ومعرفتها بمواضيع الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية، فقدمت تلك التجربة فرصة لآمال عبد الهادي للانفتاح والاحتكاك بنسويات أخريات خارج الحيّزين الجغرافي والسياسي المألوفين. وهناك، بدأ تشكيل مداركها عن اللغة والمفاوضات والسياسات المرتبطة بالجسد والجنسانية. تقول آمال عبد الهادي إن المجموعة الأولى من النسويات المؤسسات للمرأة الجديدة كانت تجيد الانجليزية، وهو ما أتاح لهن فرصة الانخراط في هذه المساحات والنقاشات والتعرض لتلك الأفكار والاشتباك معها.  ما تقوله آمال عبدالهادي يشير لجانب من الامتيازات التي حظت بها نسويات “القاهرة 94” المصريات، ويشير هذا الامتياز إلى عقبة هيكلية حاضرة دائمًا في مساحات المناصرة الدولية، والتي تجعل المساهمة والانخراط في هذه المساحات محصورًا على فئة معينة من النساء اللاتي يمتلكن امتياز معرفة لغة أجنبية. وهذا الامتياز هو نتيجة لسلسلة أخرى من الامتيازات الطبقية والاجتماعية والثقافية.

تضفي ترجمة المصطلحات المرتبطة بالحقوق والصحة الجنسية والانجابية للعربية غرابةً عليها، على الرغم من ارتباطها الوثيق بواقعنا المحلي والمُعاش. الكثيرات منا – حتى الآن – لا يستطعن الشعور بالتواصل مع مصطلح مثل “الحقوق الإنجابية” أو فهم كيف ينعكس هذا المصطلح المجرد في حياتنا اليومية. تحدثت ليلى الحسيني – وهي نسوية من أصول جزائرية تعيش في أمريكا وشاركت في مؤتمر “القاهرة 94” – في مقابلة أجرتها معها سالي ونانا عن الأفكار التي شغلت النسويات في هذا الوقت، والتي لها صلة وثيقة باللغة: ماذا تعني “الحقوق الإنجابية”؟ كيف يمكن لهذا المصطلح أن يُترجم للعربية؟ كيف يمكن للنسويات استعادة وتأطير هذا المصطلح من منظور محلي؟ تقول عايدة سيف الدولة – وهي نسوية مصرية وإحدى مؤسسات المرأة الجديدة وشاركت في مؤتمر “القاهرة 94” – إن الوصول لمصطلح “الحقوق الإنجابية” أخذ منهن وقتًا طويلا، وإنها في النهاية ليست راضية تمامًا عن هذا المصطلح، كونه ترجمة حرفية لـ Reproductive Rights بالانجليزية. لكنها توضح أنه على العكس من الـ Reproductive Rights، لم تكن نشأة “الحقوق الإنجابية” مرتبطة بحركة اجتماعية على الأرض، أو بتراكم تاريخي يعكس سياق اجتماعي يعطي له معنى وفهمًا أعمق، ودلالة مرتبطة بسياقنا المصري والعربي.

تأخذنا ملاحظة عايدة سيف الدولة لسؤال الحركة في مصر؛ كيف تشكلت حركة النسويات المصريات قرابة وقت “القاهرة 94″؟ من هن النسويات اللاتي ساهمن في تشكيل تلك الحركة وخطابها؟ ماهي المحددات التي فرضها الظرف الموضوعي على شكل تلك الحركة؟ كيف يمكننا الاستفادة من خبراتهن؟ وكيف يمكننا تقديم نقدًا يساعدنا على فهم إشكاليات الحركة من دون عزلها عن سياقها التاريخي؟ لماذا نشعر حتى الآن أننا بصدد فك شفرة مرحلة تاريخية لم نكن جزءًا منها؟ ولماذا لم تمرر لنا المعرفة المرتبطة بهذه المرحلة كجزء من الحفاظ على استمرارية الحركة؟ وكيف يؤثر عدم تمرير المعرفة على مداركنا النسوية الحالية؟

اللقاء الأول

أتذكر الجلسة الأولى للمجموعة التي التقت لمناقشة البحث المكتبي “القاهرة 94”. يتملكني التوتر في الساعات التي تسبق الجلسة، فأنا المنوطة بعرض البحث. أُخرِج كشكولي وأبدأ في أخذ الملاحظات. وفي هذه الأثناء، أسرح قليلًا وأفكر؛ هل ما سأقوله سيكون كافيًا لفتح نقاش؟ هل ما كتبته بالـ “جودة” الكافية؟ هل استنتاجاتي من هذا البحث منطقية؟ تبدأ المدعوات في القدوم إلى المكان واحدة تلو الأخرى. تحضر بعضهن مشروبا ساخنا، وتشترك أخريات في أحاديث جانبية ويتبادلن آخر الأخبار. وكعادتي عندما أكون في مكان به الكثير من الغرباء، أصمت. تتسلل الأصوات من حولي لإدراكي، غير قادرة على تفسير ما الذي يُقال، فكلها أصوات متداخلة تتخللها الضحكات والحركة. تأتي بعض الوجوه المألوفة، نلقي على بعض التحية وأعود لصمتي، فأنا لست ماهرة في فتح المحادثات. عندما اكتمل عددنا دخلنا الغرفة، نجلس في دائرة تتوسطها العصائر الطازجة والفاكهة. أبدأ بعرض موجز للبحث، يسري في الدائرة بريق الانبهار ثم شرارة النقمة. نبدأ في تعريف أنفسنا وتتحدث كل واحدة منا عن الدافع الذي أتى بها إلى هذه الجلسة. تقول تسنيم حجاج إنها سمعت رتوشا عن المؤتمر من إحدى النسويات القدامى، التي تحدثت عن كيف تلاقت النسويات حينها في لحظة بدء التحضيرات للمؤتمر. اعتقدت تسنيم أن ما حدث في القاهرة قد بدأ وانتهى سنة 94، وأن سببه الأساسي هو الإحراج الدولي الذي تعرضت له مصر عند عرض فيلم قناة سي إن إن الشهير عن الختان في مصر. تستطرد قائلة إن نقل المعرفة المرتبط بهذه النضالات  يقتصر على من استطاعت الذهاب والرؤية بنفسها  كيف تعمل هذه المساحات، ومن لم يحالفها الحظ لن تعلم أبدًا. تقول سما التركي إن المعرفة المرتبطة بآليات مساحات المناصرة الدولية تُنقل عندما نُوَّظف في جمعية أو منظمة لحقوق المرأة، وتُنقل معها رؤية المنظمة أو الجمعية عن هذه الآليات. لا توجد مساحة لتكوين رؤية أو نقد بعيدًا عن مساحات المنظمات التقليدية، وتستطرد قائلة “بشتغل نسوية”. يُطرح سؤالًا وأسمع صداه في كل مشاركة؛ إيه اللي بتعنيه لينا كلمة حركة؟ وإيه أشكال العمل اللي بتعكس وتمثل مفهوم .الحركة؟

يهيمن علينا شعور بالغضب والإحباط. لماذا نحن واقفات الآن عند هذه النقطة؟ لا نعلم من أين نبدأ. كأننا في صحراء واسعة؛ تحيطنا الرمال من كل جانب، والشمس حارقة. ربما نعلم الهدف؛ نريد الخروج من هذه الصحراء، لكننا لا نمتلك بوصلة أو خريطة. علينا أن نبدأ في رسم الخريطة وفهمها. نرى علامات أقدام على الرمال، ندرك حينها أن هناك من مررن قبلنا بهذه الصحراء، لكن هذه العلامات متقطعة وغير متصلة. نبدأ في النبش تحت الرمال، نتناثر في الفراغ الواسع، آملات في العثور على نقطة بداية. لماذا لم تترك لنا من مررن قبلنا بهذه الصحراء أي دليل مساعد؟ أقرأ ورقة كتبتها ريشيتا نانداجيري (Rishita Nandagiri) وهي نسوية هندية، تنتقد فيها الحركة النسوية في الهند. لكن قبل أن تشرع في النقد قالت: “كبرت ووجدت طريقي الخاص داخل الحركة النسوية، تُرشدني وتقودني من سرن في هذه الطرق من قبلي؛ من يسّرنها قليلًا لأجلي (…) برنامج عمل القاهرة هو أحد تركات حركتي (…) لقد نُقِل لي مع أكواب شاي ومعه قصص جانبية كثيرة عن التكتيل (lobbying) والتنظيم عبر المدن والقارات؛ بالكاد حوت القصص غضبًا من تواريخ الانتهاكات وبرامج التحكم السكاني 1. أستمر في  القراءة، أرى نقدًا لازعًا، ومحاولات عدة للفهم والتحليل. لكن قبل أن تصل ريشيتا إلى نقدها، كانت قد ورثت المعرفة والتاريخ من النسويات اللاتي سبقنها. لماذا لم يحدث معنا نفس الشيء؟ 

علينا النظر للتاريخ لنفهم كيف وصل بنا الحال إلى هنا. أن أنظر للتاريخ يعني أن أرى نفسي كامتداد لشئ ما، أن تذوب حدود فرديتي لتمتزج بما هو أكبر، أن أتواضع أمام قوى وأنظمة تراكمت سلطتها على مر السنين. أنا لست أكبر من نقطة في صراع دائم من أجل الحصول على المزيد من السلطة. في مواجهة التاريخ، أدرك هشاشتي وضعفي، كما أستطيع أن أرى ومضات الأمل في التغيير؛ ففي التاريخ يتجدد إدراكي لأن “التغيير هو الثابت الوحيد”. وليس بالضرورة  أن يكون تغييرًا للأفضل. في التاريخ، أعلم أنه لا مجال للحتمية، كما أنه لا مجال لتحقيق أي تغيير مأمول بمفردي. التاريخ دائما مجال لصراع امتلاك السردية، تتوه الحقائق في قلب النزاع ويُغفل أن بعض السرديات  تمحي تواريخ أناس مروا من هنا.

يُقسَّم تاريخ الحركة النسوية إلى ثلاث موجات؛ الموجة الأولى التي كانت لها بوادر منذ نهايات القرن التاسع عشر، ثم تبلورت مع حركة الاستقلال الوطني في بدايات القرن العشرين، وكانت بقيادة نساء من الطبقات الوسطى العليا والعليا (هالة كمال، 2016، ص.7-8)، والموجة الثانية هي نسوية الدولة (المصدر السابق، ص.10)، والموجة الثالثة هي موجة  تكونت من فاعلين متعددين من منظمات المجتمع المدني، من ضمنهن مجموعة المرأة الجديدة (المصدر السابق، ص.12) التي بدأت في التشكل سنة 1985 (نادية العلي، 2000، ص.186)، وساهمت بعض من عضواتها في المؤتمر الدولي للسكان والتنمية وفي قوة مناهضة ختان الإناث، وأيضًا مجموعات نسوية أخرى مثل مجموعة بنت الأرض التي أُسست في المنصورة في بداية الثمانينيات (المصدر السابق، ص.187)، ومجموعة معًا وهي مجموعة من النسويات اللاتي انشققن عن المرأة الجديدة سنة 1898 وأسسن مجموعتهن المستقلة سنة 1991 (المصدر السابق، ص.199).

لم تكن كل النسويات المنخرطات في العمل النسوي قرابة وقت القاهرة من جيل واحد، لكن صنفت نادية العلي (2000) الفاعلات في النضال النسوي في التسعينيات إلى ثلاثة أجيال، الجيل الأكبر (من كن في الستينات والخمسينات من أعمارهن أثناء القاهرة)، وجيل الوسط (من كن في الأربعينات ومنتصف الثلاثينات أثناء القاهرة) والجيل الأصغر (من كن في بدايات الثلاثينات والعشرينات أثناء القاهرة وبعده). رأت نسويات جيل الوسط ونسويات الجيل الأكبر أن نسويات الجيل الأصغر يفتقدن للشغف والدافع والرغبة في العمل على قضايا النساء من منطلق سياسي. وتُرجِع نادية العلي هذا إلى غياب أية حركة معارضة منظمة بخلاف الإسلام السياسي، وبالتالي نشطت النساء العلمانيات سياسيًا، ليس كجزء من حركة اجتماعية أوسع، بل دفعتهن فرص العمل المتاحة أو تمردهن الشخصي على القهر الذي تعرضن له كنساء 2. (نادية العلي، 2000، ص.110)

بدأت المرأة الجديدة باجتماع مجموعة من الصديقات المنخرطات في العمل العام بشكل دوري سنة 1985. ثم بدأن في إصدار مجلتهن سنة 1986 بعد أن تزايد النقد الموجه لهن، والتساؤل حول الأسباب التي تدفعهن للاجتماع (المصدر السابق، ص.186). كانت العضوات المؤسِسات للمرأة الجديدة منخرطات بدرجات متفاوتة في الحركة الطلابية اليسارية في السبعينيات. ودفعتهن تجربتهن المشتركة في العمل السياسي للبحث عن مساحات للتعبير عن استيائهن من البنى التنظيمية التراتبية المهيمَن عليها من قِبَل الرجال اليساريين، ومن إغفال قضايا حقوق النساء. ومن هنا نمت رغبتهن في خلق بُنى تنظيمية مستقلة وديمقراطية (المصدر السابق، ص.187). كما أشارت بعض العضوات المؤسسات إلى أن تجاربهن الشخصية مع الرجال اليساريين التقدميين كآباء وإخوة وأصدقاء وأزواج رسخن قناعتهن بأن الفكر الاشتراكي لا يجلب بالضرورة التزاما حقيقيا بمبادئ المساواة الجندرية (المصدر السابق، ص.188). نشأت خلافات داخل المرأة الجديدة بخصوص مدى التركيز الذي يضعنه على أحد وجهي القهر اللذيْن تواجههما النساء، سواء الأبوي أو الطبقي. لكنهن جميعا أدركن وجود نظام قهر متشابك (a complex system of oppression) مرتبط بـ الامبريالية والرأسمالية والأبوية (المصدر السابق، ص.190).  لم تترك نسويات المرأة الجديدة اشتراكيتهن عند تنظيمهن بشكل مستقل، بل خضن نقاشات كثيرة حول الطرق التي من الممكن أن تدمج بها النسوية والاشتراكية، ليتبلور منها منظورات وأهداف واستراتيجيات محددة (المصدر السابق، ص.188).

نظرة للخلف

بدأت قوة مناهضة الختان بجهود فردية من ماري أسعد، منذ نهايات السبعينيات، إثر اهتمامها ببحث موضوع ختان الإناث. وكتبت وعرضت ورقتها التأسيسية التي حاولت فيها تحليل وفهم الأسباب الاجتماعية المختلفة لممارسة ختان الإناث بهذه الطريقة الممنهجة، وحاولت أن تطرح فيها خطوطا عريضة للعمل على مناهضة هذه الممارسة، في اجتماع منظمة الصحة العالمية سنة 1979. تقول عايدة سيف الدولة إنه في البداية، لم ترَ نسويات المرأة الجديدة علاقتهن بمؤتمر السكان. لكن نسويات المرأة الجديدة اهتممن بتجارب وسائل منع الحمل كالنور بلانت 3، والتي كانت تُجرى بالأساس على نساء العالم الثالث، وركزن على شركات الأدوية التي تستخدم نساء العالم الثالث كفئران تجارب.  كما عملن على موانع الحمل التي لا تترك مساحة للاختيار. وبدعوة من ماري أسعد، انخرطن في التحضيرات للمؤتمر، وفي هذه الأثناء وجدت نسويات المرأة الجديدة أن مواضيع اهتمامهن مرتبطة بمؤتمر السكان. 

ساهمت اللحظة التاريخية لإقامة مؤتمر القاهرة في فتح مساحات لمشاركة النسويات المصريات اللاتي لم يشغلن بالضرورة مناصب رسمية، ولا ينتمين لمنظمات تقليدية في المؤتمر. وأثناء الاجتماع التحضيري الأول للمؤتمر الدولي للسكان والتنمية، لم تكن هناك أي مشاركة من جانب منظمات المجتمع المدني، بل حضر مندوب من وزارة الشئون الاجتماعية كممثل عن المنظمات. وبعد انتهاء الاجتماع، طلب المجتمع الدولي من مصر إشراك منظمات المجتمع المدني بشكل مباشر، ما نتج عنه ترشيح خمسة ممثلين لمنظمات المجتمع المدني، من ضمنهن عزيزة حسين، التي كانت رئيسة لمنظمة القاهرة لتنظيم الأسرة، وعملت على موضوع مناهضة ختان الإناث من خلال منظمتها بالتنسيق مع ماري أسعد من منتصف الثمانينات. أصبحت عزيزة حسين في ما بعد رئيسة لمنتدى منظمات المجتمع المدني (NGO Forum) وأتاحت المشاركة في المؤتمر لجميع المنظمات، حتى غير المسجلة في وزارة الشئون الاجتماعية (المصدر السابق، ص.193).
نجد فرقًا كبيرًا في طريقة تناول قضايا النساء والسكان، بين نسويات الموجة الأولى والنسويات المنخرطات في التحضيرات لمؤتمر القاهرة، وقوة مناهضة ختان الإناث. ركزت نسويات الموجة الأولى على إخراج نساء الطبقات الوسطى العليا والعليا من الحريم، وعلى دمجهن في المجال العام، وذلك من خلال التركيز على مطالب مرتبطة بالحق في التعليم والعمل والتصويت. تناولت أيضًا هذه الموجة النسوية موضوعات مرتبطة بوضع النساء داخل مؤسسة الأسرة، من خـلال المطالبة بتشريع قانون للأحوال الشخصية يمنـع تعـدد الزوجـات للرجـال، ويمنح النسـاء الحـق في حضانة أطفالهن بعـد الطلاق، ويلغي بيـت  الطاعة، ويقنن الحـد الأدنى لسن زواج الإنـاث. لابد أن نرى الموجة الأولى من الحركة النسوية في إطار نشأتها الأصلي كجزء من حركة التحرر الوطني، سعت البرجوازية المصرية لانتزاع السلطة من أيدي الاستعمار، ليس بهدف تحقيق تغيير جذري في بنية المجتمع المصري، لكن بهدف تملك ممارسة السلطة وفرض الهيمنة. وبالتالي، سعت نسويات الموجة الأولى للحفاظ على امتيازاتهن الطبقية، إلى جانب انتزاع بعض من الحقوق التي تحسن من جودة حيواتهن كنساء. جزء مما فعلته هذه الموجة من الحركة النسوية هو رسم حدود لماهية  “المرأة المصرية النموذجية”، بعض من هذه الحدود رُسمت عن طريق إبراز التضاد بين نسويات الموجة الأولى والنساء الأخريات القادمات من طبقات اجتماعية أقل. وأُبرِز هذا التضاد اجتماعيًا وأخلاقيًا: اجتماعيًا من خلال حملات رفع الوعي التي استهدفت بالأساس نساء الطبقات الفقيرة لنقل عادات النظافة والنظافة الشخصية لهن، لتمدينهن وتحديثهن من خلال تسييد أنماط أمومة نساء الطبقات الوسطى العليا والعليا في المجتمع، وأخلاقيًا من خلال حملة مناهضة الدعارة التي شنتها النسويات المصريات على النساء العاملات بالجنس التجاري. وكما تشير جوديث تاكر،  انخرطت نسويات الموجة الأولى في العمل السياسي المنظم ومن خلال الأطر التنظيمية الرسمية، والتي تتمحور خطاباتها وآلياتها وديناميكياتها التنظيمية حول نساء الطبقات العليا والوسطى العليا، ما أقصى الكثير من النساء الشعبيات والمنتميات لطبقات اجتماعية أفقر من العمل السياسي والنسوي، وحصر وجودهن على هوامش الحياة السياسية مع بدايات حركة الاستقلال الوطني، وجعل منهن موضوعات للتحديث بدلًا من أن يصبحن فاعلات في تشكيل الحركة (جوديث تاكر، 1986، ص.10).

في المقابل، ركزت النسويات المنخرطات في قوة مناهضة ختان الإناث على الجسد، وشكلت خطابًا يعي الفرق الذي تُحدثه الطبقة في حيوات النساء وفي الاختيارات المتاحة أمامهن. انطلق خطابهن من مفهوم العدالة الاجتماعية، فقد فككن مفهوم “الاختيار”، وأشرن إلى العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تشكل عقبات أمام اختيارات النساء في مصر، مُتخذات قضية ختان الإناث مفتاحًا  لرسم صورة أعم وأشمل لوضع النساء وأجسادهن في توازنات القوى الاجتماعية والسياسية. لعب الانحياز الأيديولوجي دورًا كبيرًا في توجيه خطاب هذه الموجة وآليات عملها. لم تنتم أولئك النسويات للطبقات الشعبية أو الفقيرة، وكن في الأغلب نساء من الطبقات الوسطى والوسطى العُليا، أغلبهن حاصلات على تعليمٍ عالٍ، ولديهن المهارات اللغوية الكافية للاطلاع على الإنتاج المعرفي المكتوب حول موضوعات اهتمامهن، واستطعن تشكيل شبكة من العلاقات سمحت لهن بالوجود في مساحات المناصرة الدولية. وكما نعرف الآن، هذا الوجود في هذه المساحات ليس متاحًا (accessible) للجميع، بل يستلزم حدا أدنى من المهارات اللغوية والمعرفية ومهارات التواصل.كما أن استخراج تأشيرات سفر للتمكن من السفر لبلاد العالم الأول، حيثُ تُعقد الاجتماعات الدورية، يتطلب أرصدة بنكية، ما يحول دون وصول النسويات القاعديات إلى هذه المحافل والمساهمة فيها. كان خطاب هذه الموجة مبنيًا على أبحاث قامت بها النسويات المنخرطات في العمل، وكانت هذه الأبحاث تسعى للسمع والفهم من دون افتراض تصورات مسبقة. كما كانت تسعى لتغطية موضوع الختان من كافة نواحيه الاجتماعية والسياسية والطبية. حاولت نسويات تلك الموجة إعطاء عمقًا أكبر للفهم، ورؤية الطريقة التي تعمل بها أنظمة القهر المختلفة، فتشير عايدة سيف الدولة لرفضهن للمقولة التي انتشرت حينها وهي “ختان الإناث هو عنف تمارسه النساء على النساء”.  كما أن قوة مناهضة ختان الإناث – التي بدأت باقتراح من الطبيبة السودانية ناهد طوبيا، وعملت بقيادة ماري أسعد – سعت أن تكون أنشطتها قاعدية، بمعنى أن تكون مبنية على أساس جهود توعية محلية منظمة من قِبَل مجموعات العمل والمنظمات التنموية الموجودة في الأقاليم والمحافظات والقرى، وهو ما ساعد على عمل حشد شعبي في مواجهة ختان الإناث وفي التوعية به. 

في تقديري، الانحياز السياسي النابع من الأيديولوجيا هو أحد أهم العوامل التي جعلت  النسويات المؤثرات في تشكيل خطاب قوة مناهضة الختان مختلفات على مستوى التنظيم والخطاب عن نسويات الموجة الأولى، على الرغم من عدم الاختلاف في ما يتعلق بالموقع الطبقي. لكن – رغم من الانحياز – بقيت نساء الطبقات الوسطى في مواقع القيادة في القوة؛ القيادة من حيث تحديد الاستراتيجية والتكتيكات وتشكيل الخطاب. وهنا يجب علينا التساؤل حول مدى دمج نساء الطبقات الأفقر، اللاتي استطاعت القوة الوصول إليهن من خلال أنشطتها القاعدية في  ربوع مصر، في قيادة قوة مناهضة ختان الإناث. هل بُذل أي جهد لدمجهن في قيادة الحركة؟هل كان هذا سؤالًا مطروحًا من الأساس؟ أو كانت هناك إمكانية لذلك؟ هل كان ذلك سيُحدِث فرقًا في خطابات القوة وتحركاتها أو في ما آلت إليه القوة لاحقا؟

أدوات ومساحات المناصرة الدولية تحمل بداخلها معوقات هيكلية أمام انخراط النساء القادمات من مواقع اجتماعية أكثر تهميشًا، ليس فقط بسبب حاجز اللغة الانجليزية التي لا تمتلك كل النساء امتياز معرفتها، لكن لأن “لغة التنمية” المستخدمة في هياكل الأمم المتحدة هي لغة شديدة التقنية، وتستلزم قدر معين من المعرفة المتخصصة في مجالاتها المختلفة، وإلمام بمصطلحات ومفاهيم تشكلت في إطار تشكل “لغة التنمية”. وتشير لاتا ناراياناسوامي في ورقتها لطرح ماكوين الذي يفيد بأن “لغة التنمية تؤسس لتراتبية، إذ تهيمن بعض أشكال المعرفة في حين تُقصى أشكال أخرى … نصوص التنمية تحتوي على [بعض الأصوات] الصامتة. ومن المهم أن نسأل من الذي أُسكِت ولماذا؟” كما تشير لطرح إسكوبار الذي يفيد بأن “التنمية تمثل “طريقة معينة للمعرفة”، حُفِزَت هذه الطريقة من خلال عمليات التمهين (professionalization) المتجسدة في مفاهيم مثل “الخبرة”، والتي – كما يقترح كوثاري – عززت من توسع نماذج التنمية الاقتصادية النيوليبرالية محدودة الأفق. التمهين يعني أن أولئك الـ”مؤهلين بشكل مناسب” هم من يمكنهم المشاركة.” (لاتا ناراياناسوامي، 2016)

قبل مؤتمر القاهرة، شغل سؤال الوصول (access) والتشبيك مع المجتمعات المحلية والجمهور على نطاق قاعدي نسويات المرأة الجديدة (نادية العلي، 2000، ص.191). تزامن انشغالهن بهذا السؤال مع انتشار تأسيس منظمات المجتمع المدني في مجالات عدة مثل الصحة العامة، والتعليم، والتنمية، وحقوق الإنسان وقضايا النساء، إذ شهدت نهاية الثمانينيات بداية متزايدة في تمهين العمل السياسي التطوعي (المصدر السابق، ص.192). اقترحت واحدة من العضوات المؤسسات أن يستخدمن وجودهن في مجتمعات محلية في إطار عملهن المهني مع مشاريع تنموية أخرى، من أجل التشبيك مع الجمهور القاعدي في عملهن السياسي للمرأة الجديدة، وكان ثلاثة منهن قد بدأن بالفعل العمل مع مشاريع تنموية تعطيهن مدخلا لمجتمعات محلية. أثار هذا الاقتراح صراعًا محتدمًا داخل المرأة الجديدة، وأصرت أربعة من العضوات المؤسسات – اللائي انشققن عن المجموعة لاحقا وأسسن مجموعة معًا سنة 1991 – على عدم الخلط بين العمل المهني مدفوع الأجر والنشاط السياسي الذي كن يقمن به بشكل تطوعي، ورفضن استخدام الوظائف مدفوعة الأجر من أجل التواصل مع المجتمعات المحلية (المصدر السابق، ص.191). تستطرد العضوة المؤسسة قائلة إنه “في هذه العملية، نمى إدراك [المجموعة] أنها بحاجة لشكل مؤسسي ولدعم مادي” (المصدر السابق، ص.192). ومن هنا رأت العضوات المؤسسات للمرأة الجديدة انخراطهن في التحضيرات لمؤتمر “القاهرة 94” كفرصة من أجل الانتقال من العمل السياسي القائم على أسس البحث، إلى عمل سياسي قاعدي قائم على التشبيك مع المجموعات والمجتمعات المحلية (المصدر السابق، ص.193). 

أثناء التحضيرات للقاهرة، عملت بعض من العضوات المؤسسات للمرأة الجديدة على بحث الطريقة التي ترى بها النساء المصريات حقوقهن الإنجابية. وهاجمت المجموعة في هذا البحث طريقة الدولة في التعامل مع تنظيم الأسرة والتنمية، والتي من وجهة نظرهن اقتصرت على السيطرة على الخصوبة. وأدى عملهن على تقديم مصطلح الحقوق الإنجابية إلى جدل واسع في دوائر النسويات الأوسع، إذ رأت بعض النسويات أن هذه قضية مفروضة من “الغرب”، وليست مرتبطة بالسياق المصري. رفضت المجموعة هذا الاتهام، لأنهن قد بنين حجتهن على رؤى النساء القاعديات (grassroot women) (المصدر السابق، ص.194). وإلى جانب انشغاهلن بالحقوق الإنجابية، ناقشن أيضًا آثار الخصخصة والتعديلات الاقتصادية الهيكلية (structural adjustment) وقوانين العمل الجديدة (المصدر السايق). كذلك عملت المجموعة – ضمن مشاريع أخرى – على كتابة ورقة تحلل سياسات وخطابات الدولة والمنظمات الدولية التي – كما قالت إحدى عضوات المجموعة – “تبني قصص نجاحاتها على النساء كقوة عمل رخيصة” (المصدر السابق). ومثّل مؤتمر القاهرة  مساحة بالنسبة للكثير من النسويات، إذ نوقِشَت لأول مرة موضوعات مثل تجاهل القوى الوطنية والدولية لقضايا النساء، ومثلت التحضيرات للمؤتمر والمؤتمر نفسه فرصةً لطرح موضوعات شائكة مثل الإجهاض والعنف ضد النساء والحقوق والصحة الجنسية والإنجابية. كما كان المؤتمر مساحة لإقامة نقاشات مع مجموعات مختلفة من النسويات ومنظمات المجتمع المدني – سواء التنموية أو المهتمة بحقوق الإنسان – حول موضوعات أقل إشكالية مثل المساواة أمام القانون والمشاركة السياسية للنساء وقوانين الجنسية وقوانين الأحوال الشخصية والتكيفات الاقتصادية الهيكلية (المصدر السابق، ص.195). تقول عايدة سيف الدولة إنه في مؤتمر القاهرة وفي التحضيرات له، استطاعت المنظمات التي لم تتقابل من قبل أن تتلاقى، واستطاعوا إيجاد توافق بينهم على موضوعات عدة، كما أنهم أدركوا أن هناك موضوعات لن يجدوا توافقًا في ما بينهم عليها، مثل تحليل دور الدولة والموقف من الإسلاميين ودور الدين والأحزاب السياسية. كما بنوا حججهم على ورِش عمل عُقِدت في محافظات مصر المختلفة، حول المواضيع التي طرحتها النسويات حينها (عايدة سيف الدولة، 1995، ص. 115).

استكمالًا للنقطة التي تطرحها عايدة سيف الدولة في ورقتها “منظمات نسائية مصرية في طريقها من القاهرة إلى بكين” المكتوبة منذ 25 عامًا، تقول آمال عبد الهادي في المقابلة التي أجريناها معها “لأول مرة، رأتنا المجموعات الأخرى كنساء مهمومات بالصحة وبحقوق النساء، وأننا لسنا النسويات المُتَشَنِجات أو المرأة المتوحشة. أحيانًا كان يُطلّق علينا المرأة الحديدية (…) بدأت تتشكل علاقات بيننا وبين الآخرين، وبدأوا يكتشفون أن باستطاعتنا العمل معًا. ونحن أيضًا، تغيرت نظرتنا المتعالية؛ نحن النسويات العالمات بكل شئ وهم المهتمون بالعمل الخيري، اكتشفنا أنهم لا يعملون فقط  من منطلق خيري. صحيح أنهم لا يتبنون نفس المنظور الحقوقي الذي نتبناه، لكنهم مهتمون بتحسين شروط حياة النساء (…) تبدأي تكتشفيهم وهم يكتشفوكِ”. ويتبين هنا أن الغلق التام للمجال العام وانعدام وجود مساحات لتبادل الخبرات بين الفاعلين في حركة ما، يرسخ لتصنيفيّ الـ “أنا/نحن” في مقابل الـ “آخر”، بل يؤدي إلى استدامتهما. يستفيد النظام السياسي والنظم الاجتماعية من استدامة هذه الثنائية، ما يُعد أحد ركائز إضعاف أي حركة مقاومة. فمن سمات الحركة أن تتكون من  فاعلين متنوعين، قادرين على الاشتباك مع مواضيع اهتمامهم من مواقع مختلفة، وقادرين على استخدام أدوات عمل مختلفة. انفتاح الـ “أنا/نحن” على الـ “آخر” لا يمحي الاختلافات، بل يساعد على اكتشافها وعلى اكتشاف مساحات العمل المشتركة، ويرسم أفقًا للعمل الجماعي في حدود مجالات الاختلاف والاتفاق. 

بحسب المقابلة التي عقدناها مع آمال عبدالهادي، تأسست قوة مناهضة ختان الإناث قبل المؤتمر بحوالي ستة أو سبعة أشهر. وكانت فكرة الطبيبة السودانية ناهد طوبيا، التي اقترحتها لتكون استكمالًا للجهود المبذولة من ماري أسعد وعزيزة حسين والنسويات المصريات اللاتي انضممن إليهما لاحقا من أجل القضاء على ختان الإناث في مصر. تقول عايدة سيف الدولة إنه عندما أصبحت القوة جاذبة للجهات الممولة، وفي نفس الوقت مثيرة لقلق وزارة الصحة والسكان، بدأ الهجوم من الناحيتين. من الناحية الأولى، رغبت الجهات الممولة في تمويل القوة لكن في نفس الوقت لم تكن القوة  كيان مُسجل بشكل رسمي. ومن الناحية الأخرى بدأ تضييق مساحات عمل القوة على الأرض، ففُتِح نقاش داخل القوة حول العمل تحت مظلة الوزارة. بدأت القوة في العمل تحت مظلة كيانين رسميين بقيادة عزيزة حسين، هما اللجنة الوطنية للسكان والتنمية (NCPD)، المُعينة من قِبل وزارة الصحة، والجمعية المصرية للسكان والتنمية (ESPD)، تحت إدارة وزارة الشئون الاجتماعية. تقول مارجو بدران إن القوة تمتعت باستقلالية نسبية (مارجو بدران، 2009، ص. 175). وفقًا لآمال عبد الهادي، بدأ المجلس القومي للأمومة والطفولة، برئاسة مشيرة خطاب، سنة 1998 الاهتمام بموضوع الختان، وبدأت الدعوة لاجتماعات لمناقشة عمل خطة قومية من أجل القضاء على الختان. وكانت هذه الاجتماعات تستثني كل النسويات الأكثر جذرية في قوة مناهضة ختان الإناث من الدعوة والحضور، ومن ضمنهن عايدة سيف الدولة وعزة كامل وسهام عبد السلام. تستكمل آمال عبد الهادي قائلة “[القوة] اتخطفت”.

رغبة الدولة في السيطرة على مساحات التنظيم التي خُلِقت أثناء التحضيرات لمؤتمر القاهرة وأثنائه بدأت في الظهور أثناء التحضيرات لمؤتمر بكين 1995. وشددت الحكومة واللجنة المُنَظِمة المُعينة، التي كانت ترأسها هدى بدران، على التعريف القانوني لمنظمات المجتمع المدني وعلى تسجيلهم في وزارة الشئون الاجتماعية. هذا التوجه أدى إلى إقصاء بعض المنظمات التي كانت مُسَجلة كشركات غير هادفة للربح وليس كجمعيات، ومن ضمنها المرأة الجديدة (نادية العلي، 2000، ص. 195). وعلى الرغم من عدم قدرة عضوات المرأة الجديدة على الانخراط في المؤتمر بشكل رسمي، إلا أنهن حرصن على الانخراط في التحضيرات، وحرصن على حضور بعض عضواتهن بشكل فردي، خاصة العضوات الحديثات اللاتي انضممن للمجموعة بعد مؤتمر القاهرة (المصدر السابق). أغلب عضوات المرأة الجديدة القدامى رغبن في العمل على حقوق العمال في التحضيرات لبكين، لكن اللجنة التحضيرية المصرية لمؤتمر بكين – والتي كانت مُنَسَقة من قِبل رابطة المرأة العربية – أوكلت هذا الموضوع لمجموعة أخرى. وعملت المرأة الجديدة على موضوع العنف ضد النساء، والذي كان موضوعًا “لم يرغب أحد بلمسه” (المصدر السابق، ص.196).

دروس من ماضٍ غير مكتمل الملامح

أن أتواضع أمام التاريخ، يعني أن أعلم أن هناك من مروا قبلي من هنا، من تشكل وعيهم بدروس واقع خياراته محدودة، من اضطروا لخلق أدوات جديدة لأن أدوات عصرهم لم تسعفهم، ومن اضطروا للتفاوض وتقديم تنازلات من أجل البقاء. وفي مواجهة التنازلات، أتسائل دائمًا عن التكلفة وعن السياق وبدائله.

أثناء كتابتي للبحث، وتتبعي لخطابات الحركة النسوية على مر التاريخ، شعرت بالغضب الشديد تجاه نسويات الموجة الأولى، اللاتي تُردد أسماؤهن وتُتلى تواريخهن النضالية باعتبارهن الـ “رائدات”. لم أرَ نقدًا نسويًا مصريًا لأولئك النسويات، اللاتي لم يكنّ واعيات بامتيازاتهن، بل في خضم “حركتهن” دهسن نساءً أخريات، ولم يلتفتن لهمومهن أو لاحتياجاتهن. نعم، لقد تفاوضن مع قوى الأبوية، والتفاوض وما يليه من تنازلات أمر مشروع، لكن التكلفة كانت شيطنة نساء أخريات من أجل اكتساب شرعية لمطالبهن في أعين الرجال. كل النقد الذي رأيته للـ “رائدات” كان من رجال ذكوريين، غير مهمومين بحقوق النساء، إما يرون النسوية بصفتها فكرة غربية تغزو بلادنا الشرقية ومجتمعاتنا المحافظة، أو يرونها كأيديولوجيا بورجوازية، لا تنظر للأبعاد المختلفة لقهر النساء وواقعهن. شعرت أن هناك خلل في السرديات النسوية المهيمنة على تاريخ الـ “حركة”. وأرى أن بداية الخلل يأتي من تسمية التحركات النسائية والنسوية في تاريخ مصر بالـ “حركة” من الأساس.

لذلك، كانت طريقة عمل نسويات “القاهرة 94” مبهرة بالنسبة لي في البداية، لأنني رأيت انحيازًا واضحًا، وجاء هذا الانحياز من الأيديولوجيا التي حملتها النسويات المنخرطات في قيادة الحركة حينها وفي تشكيل خطابها. لكن بعد زوال الانبهار، استطعت أن أرى مشكلة. لأنه، و على الرغم من أن أولئك النسويات استطعن تشكيل خطاب تقاطعي بنسبة ما، واعٍ بشكل نظري ببعض جوانب القهر المتعددة التي تعاني منها النساء، فإن ذلك الوعي لم يكن له مردود على التنظيم النسوي حينها. وكشف ما استطعت الوصول إليه من كتابات توثق هذه المرحلة، أن النسويات الموجودات في قيادة الحركة لم يعكسن تعددية النساء المصريات باختلاف مواقعهن من أنظمة القهر المتقاطعة. والتكتيكات التي اختارتها أولئك النسويات كانت تؤدي إلى إقصاء النساء الأقل امتيازًا من القيادة ثم من صفوف الحركة. وأدركت – وهو الإدراك الأقسى عليَّ – أن النسويات اللاتي رأيت أن خطاباتهن وانحيازاتهن أقرب لي، قد حولن نساء الطبقات الأفقر لموضوعات للتنمية مثلما حولت نسويات الموجة الأولى – اللاتي رأيتهن شديدات البُعد عني – نساءَ الطبقات الأفقر لموضوعات للتحديث.

هذا الإدراك كان صادمًا وقاسيًا، وهو إدراك لا ينفصل أبدًا عن فهم الامتيازات وطبيعتها كشئ يعمل بشكل منهجي. كل الكلام النظري المرتبط بالامتيازات، والذي أصبح موضوعا يتردد كثيرًا في صفوف النسويات، والذي من السهل الحديث عنه عندما نُشير للتراتبية الاجتماعية بين النساء والرجال، يمكن تطبيقه على أداءنا النسوي التنظيمي، وعلى امتيازات اجتماعية أخرى لها علاقة بالامتيازات الطبقية والثقافية والدينية وغيرها. أنا لا أتحدث هنا بمنطق سياسات التمثيل، الذي يتجسد في حرص منظمي الندوات مثلًا على دعوة امرأة محجبة وامرأة مثلية وامرأة مسيحية …إلخ للحديث. لكنني أتحدث عن جامعية الحركة (inclusivity)، وأتأمل الطريقة التي تزداد بها الحركة النسوية في حصريتها. أتأمل أيضًا أنه عند دخولي لغرفة اجتماع تحضره نسويات، أجدنا جميعًا متشابهات، لا أتحدث عن ضرورة بذل جهود كافية في إطار التنظير، لكن في إطار سياساتنا التنظيمية. أتحدث عن جهود واعية بتجسيدات الامتيازات، وبعدم وضوح الامتياز لحامليه. نعم، يتلذذ الرجال الذكوريون بنعت النسوية بأنها أيديولوجيا “برجوازية صغيرة”، ويقولون إن النسويات يتمتعن بقدر من الامتيازات، وإننا مجموعات نخبوية لا تبذل قدر كافي من المجهود حتى تستوعب مجموعاتنا ودوائرنا نساء مختلفات. وكثيرًا ما ندافع عن أنفسنا ونستطرد في التنظير حتى ندلل على أن النسوية بإمكانها أن تكون للجميع. لكن في الواقع، لا ينعكس التنظير على طبيعة تكوين مجموعاتنا وجلساتنا ونقاشاتنا.

أثناء قراءتي لكتاب نادية العلي، ومعرفتي بالتجارب السياسية والشخصية التي دفعت نساء المرأة الجديدة في التنظيم بشكل مستقل، تفاجئت. أنا قادمة من جيل من النسويات أغلبه يتصور أنه أول من يصل لمدركاته الحالية حول اليسار ورجاله. قرأتُ بيان مجموعة كومباهي ريفر منذ ثلاث سنوات، ترجمتُه وفي مقدمة الترجمة كتبت “مُنذ لحظة عثوري على هذا البيان، شعرت بقدرة كبيرة على التواصل مع مؤسِسات تلك المجموعة”. ما لم أكتبه حينها أنني لا أفهم كيف لم تصل النساء المنخرطات في اليسار المصري لمدركات شبيهة بمدركات مجموعة كومباهي ريفر عن رفاقهن الرجال في حركة تحرر السود؟ فأنا بتجربتي المحدودة في اليسار قد توصلت للشئ ذاته! تمر السنوات وأبدأ في العمل على مشروع “القاهرة 94”. أبدأ في قراءة تاريخ لم تكن لديَّ أية فكرة عن حدوثه، أستكشف “حركة” أنتمي لها، وفكر شكل منظوري للحياة، ونساء “مهدن طريقًا وعرًا للسير”. مع الاستمرار في القراءة، تشكل إدراكي شيئًا فشيء لحجم العمل الذي قمن به من سبقنني. جلستُ أتخيل ورش العمل التي نظمنها، أتصور أشكالهن، ماذا كن يرتدين، كيف كن يتصرفن ويتحدثن، بماذا شعرن أثناء عملهن، كيف كانت تدار نقاشاتهن. انتهيت من كتابة البحث، وفي مرحلة الانعكاسات راودتني الكثير من الأسئلة حول ما حدث بعد هذه اللحظة التاريخية، ما الذي أتى بنا إلى هنا؟ لم يكن العثور على تاريخ تلك الفترة بالسهولة الكافية. وحتى بعد النظر لما استطعت الوصول إليه، أعلم أنه ما زالت توجد فجوات تملؤها سرديات أحادية. لكن منذ خمسة وثلاثين عامًا، وصلت بعض النسويات المصريات لمدركات شبيهة بمدركات جيلي، وبنين عليها خيارات سياسية مختلفة عن خيارات جيلي السياسية، وخياراتهن السياسية هي جزء مما شكل واقعي الحالي. لماذا استطعت التواصل والتماهي مع مجموعة نسوية نشأت في سياق مختلف تمامًا عن سياقي، في حين لم أتواصل مع نسويات عشن وناضلن وحلمن بواقع مصري أكثر رحابة؟

مشاعري الآن تجاه هذا الجيل من النسويات مركبة، ما بين الامتنان والانبهار والغضب واللوم. ممتنة لمحاولتهن خلق مساحة لوجودهن ولأفكارهن، ولحرصهن على عدم إعادة أخطاء من سبقنهن. ممتنة لأنني أدركت أن ما قمن به قد أثر على حياتي بشكل مباشر كما ذكرت في “كسر الدائرة”. ممتنة لأنني أعلم أن ما قمن به لم يكن سهلًا، إذ أنهن لم يفعلنه في سياق سياسي واجتماعي ممهد، بل حاربن كثيرًا وعلى عدة جبهات. أعلم أن ذلك مستنزِف. منبهرة بما استطعن تحقيقه، أعلم أنه لولا التنظيم المحدود الذي قمن به لما استطعن استغلال لحظة انفتاح سياسي نسبية كان قد فرضها العالم. منبهرة بمدركاتهن المستبصرة، وعملهن المنحاز بوضوح لقيم العدالة الاجتماعية. وغاضبة لأن هذه المدركات لم تمرر لي أو لجيلي، ولأنني أدرك أن مجرد تمرير معارفهن لنا كان من شأنه مساعدتنا على تطوير ما قد وصلن إليه، بدلًا من محاولاتنا البدائية في فهم ما حدث ورسم صورة تصل لعمقه وعمق تأثيره. غاضبة لأنني لم أستطع حتى وقت قريب أن أرى نفسي كامتداد لتاريخ نسويات تشكل وعيهن في نفس البؤرة الجغرافية التي أعيش فيها. ألومهن لأنهن لم يحرصن على تسليم الراية لمن أتين بعدهن، ولم يحرصن على ترك سردياتهن المختلفة لما حدث. وأرى ما حدث أكبر من مجرد التنظير السياسي أو الآراء التحليلية والأبحاث والأوراق، ففي اطلاعي على كل ذلك لم أرَ رحلاتهن الشخصية، لم أرَ ارتباكاتهن، أو تنوعهن أو اختلافاتهن وخلافاتهن.

أتساءل الآن لماذا لم يهتممن بتوثيق وتمرير هذه الخبرات والمعارف والسرديات؟

في نقاش دار مع مجموعة من النسويات المعاصرات حول قراءة تاريخ نسويات التسعينيات، طرحت إحداهن سردية مرتبطة بتاريخ المرأة الجديدة، كانت قد نُقِلَت لها عبر اثنتين من عضوات المرأة الجديدة القدامى. تقص هذه السردية السبب وراء انسحاب إحدى العضوات المؤسِسات من المجموعة، وتحمل في طياتها نقد للمنطق السياسي الذي طرحته السردية بصفته المنطق الذي أدى إلى قرار العضوة التي تركت المجموعة. قُلتُ لها إنه حتى نفهم  حقيقة ما حدث، علينا أن نسمع كل السرديات من كل الأطراف المنخرطة في المجموعة حينها، لأن السردية تتغير دائمًا بناءً على من قائلها ومتى قيلَت. وإن أكثر ما يشعرني بالمرارة الآن تجاه هذا الجيل أنهن لم يهتممن بترك سردياتهن المختلفة لما عايشنه حتى نستطيع أن نفهم ما حدث، أو نبني على معارفهن أو حتى نتجنب الوقوع في نفس أخطائهن. بعدها جلستُ أتأمل هذا الموقف، وأفكر في كم التاريخ الذي يضيع في النميمة، والتي أصبحت الطريقة الوحيدة التي تُتَداول الـسرديات التاريخية أو تُعَلن المواقف السياسية من أشخاص ما من خلالها. تُعيقنا النميمة عن مسائلة بعضنا البعض حول ما نطرحه من مواقف وآراء، أو حول ممارساتنا التي قد تكون غير مبدئية أو متناقضة مع ما ندعيه على أنفسنا من سياسات. يُعيقنا عدم التداول العلني لخلافاتنا السياسية عن تحقيق تمايزنا عن بعضنا البعض. أعتبر هذا التمايز أحد أسس بناء الحركة، لأنه لا يمكن أن يكون للـ “حركة” وجود إلا بوجود مجموعات مختلفة ومتنوعة تعبر عن طيف سياسي واسع. تدفعنا هذه الطريقة في التعامل مع الخلافات والاختلافات إلى عدم التعمق في مناقشة قضايانا وتحليلاتنا ورؤانا المختلفة لواقعنا ولاستراتيجياتنا وتكتيكاتنا، فالنميمة هي أحد الميكانيزمات التي ترسخ لصورة زائفة لـ”وحدة” غير متحققة. وتُسكِت هذه “الوحدة” أصواتًا كثيرة، تُطمَس تواريخها في نمّات تكرس لسرديات أحادية. 

أرى النميمة – التي ما زالت إحدى ظواهر “الحركة” النسوية المعاصرة – كأحد أعراض تمهين العمل النسوي. فبُنى المؤسسات التي يُمتهن العمل النسوي من خلالها – سواء كانت منظمات المجتمع المدني أو المؤسسات الأكاديمية – هي بُنى تراتبية، تُعطي للبعض سلطة على الآخرين، سواء كانت سلطة مادية مباشرة مرتبطة بالتدرج الوظيفي بين العاملين فيها، أو سلطة غير مباشرة مرتبطة بالوضع الذي يكتسبه الشخص بناءً على تاريخه أو درجته الوظيفية أو درجته العلمية، وكل ما ينتج عن ذلك من رأسمال اجتماعي وشبكة علاقات في دوائر الـ “عمل” النسوي. في هذا السياق، سيكون هناك الكثير من الحسابات التي نأخذها في الاعتبار إذا رغبت إحدانا في الصدام مع أو مسائلة نسوية أخرى في موقع قوة في شبكة العلاقات تلك بتوازنات قوتها. لأن الصدام أو المصارحة أو المسائلة في ظل هذا الوضع من شأنه التأثير على مصدر رزقها بشكل مباشر، وقد تكون غير قادرة على المخاطرة بدفع هذه التكلفة ثمنًا للمواجهة. وبالتالي، تُستبدل المواجهة – التي من شأنها تطوير نقاشاتنا وبُنانا التنظيمية وتكفل لنا محاسبة من هن في مواقع أكثر قوة في دوائرنا النسوية – بالنميمة. يمكن أن يكون التمهين وكل ما ترتب عليه من ديناميكيات في تشكيل الحركة أحد أسباب تفشي النميمة، لكنه ليس السبب الأوحد. 

تقول لاتا نارايناسوامي “تمثُّل الاهتمام باللامساواة الجندرية كأحد اهتمامات خطابات وممارسات التنمية، كان انتصارًا عظيمًا للنسويات. لكن ما تقترحه الأدبيات أن امتصاص خطاب النسويات في الاتجاه السائد (mainstream) كان له تكلفة. استلزم تحقيق مشاركة النسويات الجنوبيات عنصرًا تمهينيًا في الطريقة التي ستشتبك بها الحركة مع الاتجاه السائد، وغالبًا ما  تُلَخص التكلفة [التي دفعتها الحركة النسوية] في الانفصال (disconnection)”.

عمليات تمهين العمل السياسي بوجه عام، والعمل النسوي بوجه خاص، بدأت في مصر منذ نهاية الثمانينيات، واستمرت على مدار ثلاثة عقود. أتت هذه العمليات في سياق عالمي يؤسَس فيه لنظام جديد، ويُعاد ترسيم خريطة توازنات القوى في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، وتتصاعد فيه قوة المنظمات الدولية بشكل واضح. أثّر التمهين كعملية طويلة على الطريقة التي أصبحنا نرى بها العمل النسوي الآن. ففي الدوائر النسوية التي انخرطتُ فيها، لاحظتُ أننا قد تبنينا داخلنا (internalized) قيم المهنية في نقاشاتنا وكلامنا وإنتاجنا المعرفي، فأصبحنا نستمد قيمة مساهماتنا من مدى “جودتها”، وليس من مدى صلتها بواقعنا أو من قيمة فعل “المشاركة” في حد ذاته، وأصبحنا حريصات على أن يعكس إنتاجنا مدى إطلاعنا على المنتجات النظرية الجديدة. أصبحنا نتعامل مع معارفنا ومداركنا وإنتاجنا النسوي تعامُل المُنتَج الذي يجب أن يتمتع بجودة معينة، حتى يتسنى لنا بيعه. قيم “الاطلاع” و”الخبرة” هي قيم رأسمالية قادمة من قيم نظام الإنتاج الذي نُقِعنا فيه منذ أن تفتحت أعيننا على الحياة، وتكرِّس لإعلاء الشعور بـ”الفردية” و”التميز”. أسماؤنا كنسويات أصبحت كـ “العلامة التجارية” مقترنة بما حققناه من إنجازات مهنية، والتي كلما اقترنت بأسماء منظمات أو مؤسسات أكاديمية رنانة، كلما زادت قيمتها وزاد الطلب عليها. فلانة تعمل في المنظمة الفلانية، وفلانة حضرت رسالة الماجستير في الجامعة الفلانية، وفلانة حاصلة على دكتوراه خارج مصر. كل هذه الوسوم والإنجازات تجعل فُلانة تُدعى للاجتماعات، ويُسمع صوت فُلانة ويُقدر بخلاف قريناتها من الفُلانات اللاتي لم يحققن نفس الإنجازات، واللاتي من المهم أن يكن حققن أي شئ حتى ولو بسيط حتى يُدعين من الأصل. 

ومثله مثل أي “سوق عمل”، قائم على فكرة محدودية الموارد ومحدودية فُرص العمل، وضرورة أن يبذل الشخص مجهودًا كبيرًا ويسلح نفسه بالمؤهلات والشهادات والخبرات حتى “يستحق” الحصول على فرصة عمل. أصبحت النسوية سوق عمل، وأصبح إنتاجنا المعرفي وأنشطتنا السياسية ودرجاتنا العلمية أشياء نثري بها سيرتنا الذاتية (CV)، ويجب أن تكون ذات جودة عالية، ويجب أن نخلق ونوسع دائرة علاقاتنا حتى نُزيد من فرصنا. تُعزز فكرة سوق العمل من فكرة التنافسية على الفرص المحدودة، وتهدم قيم التنافسية قيمة “التضامن” وهي أساس بناء أي حركة اجتماعية. وهنا أتسائل، إذا أصبحت هذه هي محركات العمل النسوي، كيف يمكننا التفكير بشكل استراتيجي دون أن تشوش طموحاتنا الفردية ومصالحنا المهنية على تخطيطنا وتكتيكاتنا؟

يطرح علينا “التمهين” إشكاليات عدة، لكن في الوقت ذاته  هل يمكننا في ظل الظرف الاقتصادي الذي نحياه الآن أن نقوم بما نقوم به بدون الحصول على أجر؟

أرى أن إنتاجنا المعرفي أصبح غير ذا صلة بفئات أوسع من النساء، وأننا أصبحنا مجموعات وأفراد منعزلات عمن هن خارجنا. عملية العزل هذه ساهمت في تحقيقها الكثير من العوامل، فهناك ظرف موضوعي أكبر منا، فيه دولة عملت على إغلاق المجال العام إغلاقًا تامًا، فأصبحنا لا نمتلك مساحات نستطيع من خلالها الاحتكاك بالمجتمع الأكبر. ومنظمات دولية وجودها مفروض، وقد حدد مسارات الحركة، وفي الوقت ذاته أتاحت في لحظة تاريخية كلحظة 94 مساحة للنسويات المصريات حتى يحتككن ببعضهن البعض وبمن هن خارجهن. لسنا مسئولات عن هذه العزلة بشكل تام، لكن علينا إدراك أين تقع مسئوليتنا وما الذي يمكننا تغييره حتى تكون “حركتنا” أكثر رحابة وقادرة على احتواء الجميع. وعلينا أن نعرف تاريخنا ونرصد توابع اختيارات النسويات اللاتي سبقننا حتى ندرك آثارها علينا.


 

Share Button

Footnotes

  1.  Rishita nandagiri, “Post What? Global Advocacy and Its disconnects: The Cairo Legacy and the post-2015 Agenda”; “Bodies In Resistance: Gender and Sexual Politics in The Age of Neoliberalism”, Edited by Wendy Harcourt, 2017, P.237 .
  2.  Secularism, Gender and the State in the Middle East: the Egyptian Women’s Movement, Page 110.
  3. أحد وسائل منع الحمل، وهو عبارة عن جهاز مكون من قضبان مطاطية بحجم عود الثقاب ، ويتم زرعه جراحيًا تحت الجلد في أعلى ذراع المرأة ، حيث يطلق بثبات هرمون البروجستين.